ضرورة محاسبة النفس
مدة الملف
حجم الملف :
6911 KB
عدد الزيارات 2097

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا نفتتح هذا اللقاء المبارك (لقاء الباب المفتوح) بعد موسم الحج عام (1418هـ)، في هذا اليوم الخميس السادس والعشرين من شهر ذي الحجة عام (1418هـ). ونستهل هذا اللقاء بمراجعة أنفسنا ومحاسبتها، ماذا عملنا في هذا العام الذي يكاد أن ينصرف؟ ماذا عملنا من خير وماذا تركنا من سوء؟ إن التاجر ليراجع دفاتر حسابه عند رأس كل سنة مالية، هذا وهو إنما يدبر أموراً دنيوية لا تنفعه في الآخرة إلا ما أراد به وجه الله منها، فكيف بنا نحن؟! هل راجعنا أنفسنا فرأينا تقصيراً في واجب نتداركه أو فعلاً لسيئ فنقلع عنه؟ أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون كذلك. إن هذه الدنيا كلها تمضي، وكل شيءٍ فيها فإنه عبرة، إن نظرت إلى الشمس تخرج في أول النهار ثم تأفل في آخر النهار وتزول، هكذا وجود الإنسان في الدنيا يخرج ثم يزول، إن نظرنا إلى القمر كذلك يبدو أول الشهر هلالاً صغيراً ثم لا يزال ينمو ويكبر فإذا تكامل بدأ بالنقص حتى عاد كالعرجون القديم، كذلك إذا نظرنا إلى الشهور تجد الإنسان يتطلع إلى الشهر المقبل تطلع البعيد، فمثلاً يقول: نحن الآن في الشهر الثاني عشر بقي على رمضان ثمانية أشهر فما أبعدها! وإذا به يمر عليها بسرعة، وكأنها ساعة من نهار، هكذا العمر أيضاً -عمر الإنسان- تجده يتطلع إلى الموت تطلعاً بعيداً ويؤمل وإذا بحبل الأمل قد انصرم، وقد فات كل شيء، تجده يحمل غيره على النعش ويواريه في التراب ويفكر: متى يكون هذا شأني؟ متى أصل إلى هذه الحال؟ وإذا به يصل إليها وكأنه لم يلبث إلا عشية أو ضحاها.

أقول هذا من أجل أن أحمل نفسي وأحمل إخواني على المبادرة باغتنام الوقت، وألا نضيع ساعة ولا لحظة إلا ونحن نعرف حسابنا فيها، هل تقربنا إلى الله بشيء؟ هل نحن ما زلنا في مكاننا؟ ماذا يكون شأننا؟ علينا أن نتدارك الأمور قبل فوات الأوان، وما أقرب الآخرة من الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يتمثل كثيراً بقول الشاعر:

وكلنا مصبحٌ في أهله والموت أدنى من شراك نعله
أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة، وأن يجعل مستقبل أمرنا خيراً من ماضيه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

تفسير آيات من سورة النجم :

نبتدئ هذا اللقاء الذي نرجو الله أن يكون مباركاً بما كنا نفتتح به جميع اللقاءات وهو الكلام على شيءٍ من الآيات الكريمة، وذلك أنه ينبغي لكل مسلم أن يعتني بكتاب الله عز وجل، وأن يقرأه مرتلاً على مهل، ويتدبر آياته فإن الله أنزله لهذا، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] فلا بد من التدبر -يعني: فهم المعنى- ثم يليه التذكر يعني: الاتعاظ. ولقد اخترنا تفسير المفصل؛ لأنه كثيراً ما يسمعه الناس من قراءة الأئمة في الصلوات.

تفسير قوله تعالى: ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ :

لقد انتهينا فيما سبق إلى قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:42] وهذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى: فتح الهمزة: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:42]. والثانية: كسر الهمزة: ﴿وَإنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم:42] وكلاهما قراءتان صحيحتان سبعيتان، إذا قرأ الإنسان بإحداهما صح، بل الأولى للإنسان الذي يعرف القراءات أن يقرأ بهذه القراءة مرة وبهذه القراءة مرة أخرى، لكن لا على ملأ من الناس وسماعٍ منهم؛ لأن العامة إذا سمعوك تقرأ على خلاف ما يعلمون فسيحصل بذلك مفسدة, إما أن يقولوا: إن هذا الرجل لا يعرف القرآن، وإما أن يتشككوا في القرآن، حيث يظن العامي أن القرآن لا يمكن أن يبدل أو يغير، لذلك ننصح إخواننا الذين أعطاهم الله تعالى علماً في القراءة ألا يقرءوا إلا بالقراءة المعروفة عند العامة حتى لا يحصل اللبس، لكن فيما بينك وبين نفسك إذا كنت تدرك القراءة الثانية إدراكاً تاماً فاقرأ بها أحياناً؛ لأن الكل سنة، والكل كلام الله عز وجل. فإذا كانت بالكسر: (وإن إلى ربك المنتهى) صارت هذه الجملة وما بعدها ليست في صحف إبراهيم وموسى، بل تكون استئنافية. وإذا كانت بالفتح: (وأن إلى ربك المنتهى) صارت هذه الجملة وما بعدها مما جاء في صحف إبراهيم وموسى. وعلى كلٍ فهي كلام الله عز وجل. ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ في أي شيء؟ في أمور الدين والدنيا، فإلى الله المنتهى في مسائل العلم، عندما تشكل علينا مسألة من مسائل العلم إلى أين ننتهي؟ إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء:59]، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً من عنده، إنما هو من عند الله عز وجل، فيكون المنتهى إلى الله في الحكم بين الناس وفي الحكم في الناس. (إلى ربك المنتهى) أيضاً منتهى الخلائق؛ لأن هذا الخلق الموجود الآن سوف يفنى وينتقل إلى خلقٍ آخر، كما قال عز وجل: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق:15] المنتهى على هذا التقدير هو يوم القيامة، فإلى الله المنتهى؛ أي: إلى الله المصير. فمنتهى أحوالنا وأحكامنا وجميع ما يصدر منا وعلينا إلى الله عز وجل. وإذا كان إلى الله المنتهى فإلى من تشكو إذا أصابك الضر؟ إلى الله عز وجل، وإذا أردت النفع فمن تطلب؟ الله عز وجل؛ لأنه إليه المنتهى، وكم من إنسان انعقد له أسباب الرزق وإذا به يحرم منه في آخر لحظة، ربما يشتغل بإنشاء محطة على أنه يريد أن يرتزق بها، وإذا كان الله لم يرد هذا احترقت المحطة. إذاً: لا يجلب لك الخير إلا الله، ولا يمنع عنك الضرر إلا الله عز وجل، فاجعله منتهاك في كل أمورك.

تفسير قوله تعالى: ﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ :

قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى﴾ [النجم:43] هل المراد حقيقة الضحك أو المراد لازم ذلك وهو الفرح؟ وكذلك يقال في أبكى: هل المراد حقيقة البكاء أو المراد الحزن؟ إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: الضحك الحقيقي، والضحك الحقيقي لا ينشأ إلا عن سرور، (وأبكى) البكاء الحقيقي، والبكاء لا يحصل إلا عن حزن، فالله تعالى أضحك في الدنيا وأبكى، وأضحك في الآخرة وأبكى. الكفار في الدنيا الآن يضحكون على المسلمين والمؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:29] لكن هذا ضحك سيعقبه بكاء في يوم القيامة ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:34] فالذي أضحك في الدنيا وأبكى، والذي أضحك في الآخرة وأبكى هو الله عز وجل. إذاً: هو مقدر ما يكون به الضحك، ومقدر ما يكون به البكاء، وأتى بالأمرين وهما متقابلان ليعلم بذلك أن الله سبحانه وتعالى على كل شيءٍ قدير، وهو القادر على خلق الضدين.

تفسير قوله تعالى: ﴿وأنه هو أمات وأحيا﴾ :

قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ [النجم:44] أمات في الدنيا وأحيا في الدنيا، وأمات أيضاً في الدنيا وأحيا في الآخرة، والآن البشر تجد هذا تنفخ فيه الروح اليوم فيكون الله قد أحياه، والآخر تنزع روحه من بدنه ويكون الله قد أماته، وهكذا دواليك، هو الذي أمات وأحيا، وهناك أيضاً ميزة عامة وحياة عامة، أمات العالم في الدنيا وأحياهم في الآخرة، فهو الذي خلق الموت وهو الذي خلق الحياة، وهذان أيضاً متضادان حياة وموت كلها من عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير.

تفسير قوله تعالى: ﴿وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى﴾ :

قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ۞ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ [النجم:45-46] (خلق الزوجين) الزوج بمعنى: الصنف. ومثاله قوله تعالى: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص:58]؛ أي: أصناف. وقوله تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [الصافات:22] ليس المراد: زوجاتهم، المراد: أزواجهم؛ أي: أصنافهم. إذاً: (الزوجين); أي: الصنفين، ثم بين هذين الصنفين، فقال: ﴿الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ [النجم:45] من مادة واحدة (من نطفة) وهي المني، (إذا تمنى) ؛ أي: تراق وتصب في رحم المرأة، فالله عز وجل خلق هذين الصنفين المختلفين خلقة، المختلفين مزاجاً، المختلفين عقلاً، المختلفين فكراً من شيءٍ واحد، من نطفة، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آخر سورة القيامة: ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ۞ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة:39-40]؟

الجواب: بلى. فالله تعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى من شيء واحد، وهذا يدل على كمال قدرته جل وعلا، إذ أنه خلق صنفين مختلفين في كل الأحوال، حتى في القوى البدنية يختلف الرجل عن المرأة، والعقلية والفكرية والتنظيمية يختلف الذكر عن الأنثى، وبذلك نعرف ضلال أولئك القوم الذين يريدون أن يلحقوا المرأة بالرجل في أعمالٍ تختص بالرجل، فإنهم سفهاء العقول، ضلال الأديان، وكيف يمكن أن نسوي بين شيئين أو بين صنفين فرق الله بينهما خلقة وشرفاً! هناك أحكام يطالب بها الرجل ولا تطالب بها المرأة، وأحكام تطالب بها المرأة ولا يطالب بها الرجل، وأما قدراً وخلقة فالأمر واضح، لكن هؤلاء الذين لم يوفقوا وسلب الله عقولهم وأضعف أديانهم يحاولون الآن أن يلحقوا النساء بالرجال، وهذه لا شك أنها فكرة خاطئة مخالفة للفطرة, مخالفة للطبيعة، كما أنها مخالفة للشريعة أيضاً. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم:46] ما معنى تمنى؟ أي: تصب وتراق في الرحم، ومنه سمي المكان الذي حول مكة منى قال العلماء: لأنها تمنى فيه الدماء؛ لأن الهدي يذبح يوم العيد في منى، فتراق فيه الدماء؛ ولذلك سمي هذا المكان باسم ما يحدث فيه.

تفسير قوله تعالى: ﴿وأن عليه النشأة الأخرى﴾ :

قال تعالى: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:47] على من؟ على الله، وفي هذا دليل على أن الله أوجب على نفسه أن يبعث الناس؛ لأن الناس لو كانوا يحيون ويموتون بلا إرجاع لكان هذا عبثاً محضاً; لأننا نعلم الآن أن الناس في الدنيا يختلفون في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والذكاء والعقل، وغير ذلك، لو كان الخلق هكذا فقط بدون إرجاع لكان هذا منافياً للحكمة تماماً، لكن لا بد من رجوع، ولهذا قال: (وأن عليه) و(على) ماذا تفيد؟ مثلاً: إذا قلت: عليك تفعل كذا يعني: واجب، فـ(على) تفيد الوجوب، فيكون الله أوجب على نفسه أن ينشئ الناس مرة أخرى، ولا مانع أن الله يفرض على نفسه ما شاء، كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:54]؛ أي: أوجب على نفسه الرحمة. كذلك هنا قال: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم:47]؛ أي: على الله، أوجب الله على نفسه أن ينشئ الناس نشأة أخرى للجزاء كلٌ بحسب عمله، والنشأة الأخرى تفيد بأن هنالك نشأة قبل، وهي النشأة الأولى، وهي ابتداء خلق الناس من عند الله عز وجل.

وفي قوله: (الأخرى) فائدة عظيمة وهي الإشارة إلى أن القادر على الأولى قادر على الآخرة، والنشأة الآخرة أهون من الأولى، كما قال عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم:27] كله عليه هين، لكن الهين يختلف باعتبار ذاته لا باعتبار قدرة الله، فقدرة الله لا تختلف، فالأمر عنده (كن فيكون) سواء كان أعلى شيء أو أدنى شيء. لكن بالنسبة للمقدور عليه أيهما أهون؟ الإعادة أهون أما بالنسبة لقدرة الله فكلها واحدة؛ لأن المسألة لا تعدو أن يقول: كن فيكون. وبهذا نعرف أن بعض المفسرين رحمهم الله وعفا عنهم قالوا في قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم:27]؛ أي: وهو هين عليه. وهذا غلط، كيف يقول الله عن نفسه: (وهو أهون عليه) ونقول: وهو هين؟! لكن نقول: الهون له نسبتان: نسبة للمفعول، ونسبة للفاعل، بالنسبة للفاعل هما سواء؛ لأن كل شيء منهما يتكون بكلمة واحدة: كن فيكون. وبالنسبة للمفعول يختلف، ولا شك أن الأول أشد من الثاني. إذاً: كلمة: (الأخرى) فيها فائدة وهي: الإشارة إلى أن القادر على الأولى قادر على الأخرى من باب أولى، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم:27]. أسأل الله تعالى أن يجعل مصيرنا ومصيركم إلى الجنة، وأن يجعل آخر أمورنا خيراً من أولها، إنه على كل شيءٍ قدير.