أحكام جمع الصلاة بسبب المطر
مدة الملف
حجم الملف :
4632 KB
عدد الزيارات 3261

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد:

فهذا هو اللقاء السبعون بعد المائة الذي يتم كل يوم خميس والمسمى بلقاء الباب المفتوح، وهذا الخميس هو الثالث عشر من شهر رجب عام (1418هـ). نتكلم فيه الآن عما أنعم الله به على هذه البلاد في هذا الأسبوع من كثرة الأمطار الغزيرة العامة -ولله الحمد- ولا شك أن كثرة الأمطار من نعم الله تبارك وتعالى التي يستحق عليها أن يشكر ولا يكفر، وأن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، هذه الأمطار لا يعلم متى تنزل إلا الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن ينزلها إلا الله عز وجل، ولا يستطيع أحدٌ أن ينبت الأرض بها إلا الله عز وجل قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان:34].

ولا شك أن هذه الأمطار قد يحصل فيها شيءٌ من الضرر على بعض الناس إما بتلف المواشي، أو بتهدم البناء، أو بفساد الزروع، وكل هذا بتقدير الله سبحانه وتعالى.

فالواجب علينا إزاء هذا الذي يحصل الصبر والاحتساب، والاتعاظ والعبرة، وأن نقيس ما حصل عندنا بما يحصل في بلادٍ أخرى من الفيضانات العظيمة المدمرة تدميراً واسعاً شاملاً، حتى يتبين أن ما أصاب بعض الجهات من هذه الأمطار من الأذى لا ينسب إلى ما نسمعه في البلاد الأخرى، فلله الحمد والمنة.

دليل الجمع في المطر: 

إن هذه الأمطار قد يحصل بها أذىً عند أداء الصلاة مع الجماعة إما حال نزول المطر، وإما بآثاره من كثرة المناقع في الأسواق أو الوحل، وإذا حصل هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد يسر لعباده وأباح لهم أن يجمعوا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فيما رواه مسلم في صحيحه : (جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوفٍ ولا مطر) فقوله: (ولا مطر) يدل على أن من عادته أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء للمطر؛ لما يلحق الناس من الأذى في الحضور إلى المساجد، ولكن انقسم الناس في هذا إلى ثلاثة أقسام:

أقسام الناس في الجمع في المطر: 

قسم فرط، وقسم أفرط، وقسم معتدل.

أما الذي فرط فهو الذي لا يعتبر هذا شيئاً يبيح الجمع، فتجده لا يجمع حتى وإن شق الحضور إلى المسجد مشقة كبيرة، فإنه لا يجمع، حتى لو قال له أهل المسجد: اجمع بنا، لا يجمع، وهذا غلط. يخشى على هذا أن يدخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه» لكن لا عبرة بالرجل والرجلين من جماعة المسجد؛ يعني مثلاً: لو كانت المشقة تكون لرجل أو رجلين أو ما أشبه ذلك دون بقية الجماعة فلا عبرة بهؤلاء، العبرة بالأكثر، وهؤلاء الأقل إذا كان يشق عليهم أن يحضروا إلى المسجد في الصلاة الثانية فلهم الرخصة أن يصلوا في بيوتهم، كما جاء في الحديث «الصلاة في الرحال».

ومن الناس من هو على عكس هذا: فتجده يجمع بدون مشقة، حتى لو نزلت نقط يسيرة من المطر جمع، وبعضهم إذا رأى السماء ملبدة بالغيوم جمع، وهذا أيضاً محرم ولا يحل، ومن جمع لغير عذرٍ فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وسيتقلد آثام هؤلاء الذين صلوا قبل الوقت؛ لأن جمع الثانية للأولى معناه صلاتها قبل وقتها، وهذا حرام، إنما لابد من مشقة. إما من مطرٍ نازل يبل الثياب بحيث تتشرب الثياب المطر حتى تنعصر إذا عصرت، وإما بمشقة الطريق، وأما بدون مشقة فإنه لا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ [النساء:103] وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوقات هذه الصلوات، فلا يحل أن نتعدى حدود الله فنجمع بدون عذرٍ شرعي.  ومن الناس من هو معتدل مستقيم إذا رأى المشقة جمع، وإذا لم يكن ثَمَّةَ مشقة لم يجمع، فهذا الذي هو على هدى مستقيم، وهو الناصح لنفسه ولمن وراءه من الجماعة.

لهذا يجب على طلبة العلم أن يبينوا للأئمة هذه المسألة بياناً واضحاً حتى لا يتجرأ أحدٌ على الجمع بدون عذر، ولا يتأخر أحدٌ عن الجمع إذا وجد عذراً.

واعلم أنه لا يصح أن تجمع العصر إلى الجمعة. مثلاً لو كان يوم الجمعة والأمطار كثيرة والناس يصلون يوم الجمعة في المسجد فإنه لا يحل لهم أن يجمعوا إليها العصر؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الأمطار كانت في عهد الرسول في يوم الجمعة وغير يوم الجمعة، فإنه لما استسقى على المنبر لم ينزل من منبره حتى نزل المطر وجعل يتحادر على لحيته، ولم يجمع العصر إليها، ولا يصح أن تقاس الجمعة على غيرها؛ لأن الجمعة صلاةٌ فريدة تختلف عن الظهر اختلافاً كثيراً; ولأنه لا قياس في العبادات.

العبادات يتمشى فيها على ما جاءت به الشريعة، ولا يمكن أن يقيس أحدٌ في العبادات فيثبت عبادة لم تكن معروفة قياساً على عبادة أخرى.

أسباب الجمع في المطر أثناء السفر وغيره: 

ثم اعلم -أيها المستمع الكريم- أن الجمع له سبب: وهو المشقة أو مظنة المشقة: المشقة كما ذكرنا في المطر. ومن ذلك أن تكون الليلة باردة ذات ريحٍ تؤلم الناس، فيجوز الجمع؛ لدعاء الحاجة إليه؛ ولأن المشقة في الوصول إلى المسجد في مثل هذه الحال أعظم من المشقة في الوصول إلى المسجد بالمطر.

كذلك يجوز الجمع للمريض الذي يشق عليه أن يصلي كل صلاةٍ في وقتها، سواء كان ذلك لضعفٍ في البدن، أو لعدم استمساك البول أو الغائط أو الريح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للمستحاضة أن تجمع؛ لأنها يشق عليها أن تتوضأ لوقت كل صلاة. فكل من حدثه دائم فإنه يجوز له أن يجمع لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة. ومن ذلك؛ أي: مما يباح له الجمع: إذا أراد الإنسان سفراً وخاف ألا يتيسر له أن يصلي الصلاة المقبلة في وقتها فله أن يجمع، مثل: أن تصادف الصلاة الثانية وهو في الطائرة أو في سيارة لا يتمكن من إيقافها أو ما أشبه ذلك فله أن يجمع لتعسر الصلاة المقبلة عليه في وقتها، والجمع -والحمد لله- واسع.

ومن ذلك، أو مما يباح الجمع من أجله السفر: إذا كان الإنسان مسافراً جاز له الجمع سواء كان سائراً أو نازلاً، لكن السائر نأمره بالجمع ونقول: اجمع اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، والنازل نقول له: الأفضل ألا تجمع، وإن جمعت فلا بأس، هذا إذا لم يكن في بلدٍ تقام فيه الصلاة جماعة. فإن كان في بلدٍ تقام فيه الصلاة جماعة وجب عليه أن يصلي مع الناس؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له»؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في ترك الجماعة فرخص له، فلما ولى دعاه وقال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم. قال: «فأجب»  وما يتوهمه بعض العوام من أن المسافر ليس عليه جماعة فهو لا أصل له، المسافر والمقيم كلٌ منهما عليه الجماعة، والدليل: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتخلف أحد من أصحابه عنه في السفر كلهم يصلوا جماعة؛ ولأن الله تعالى أمر في صلاة الخوف أن يصلون جماعة وهم مسافرون وخائفون، فدل ذلك على أن السفر لا يسقط الجماعة عن الناس.