صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام
مدة الملف
حجم الملف :
13771 KB
عدد الزيارات 1859

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الثاني والخمسون بعد المائة من لقاءات الباب المفتوح التي تتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو الثامن عشر من شهر ذي القعدة عام (1417هـ). وبما أننا على أبواب الحج فإننا سنجعل بدلاً عن التفسير كلاماً في الحج.

فنقول وبالله التوفيق: أولاً: الحج مرتبته من الدين الإسلامي أنه أحد أركان الإسلام الخمسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام».

وهو فرض بإجماع المسلمين، ومن جحد وجوبه وهو ممن عاش بين المسلمين فإنه يكون كافراً؛ لأن وجوبه مما علم بالضرورة من دين الإسلام، ومن تركه متهاوناً فإنه على خطر؛ لأن من العلماء من قال: إذا ترك الحج تهاوناً فإنه يكفر؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97] وعلى هذا فالإنسان على خطر إذا تركه.

وقد فرض الله تعالى الحج في السنة التاسعة للهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، فخرج من المدينة في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ووصل إلى مكة صبيحة يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وكان معه الهدي عليه الصلاة والسلام فأحرم قارناً -أي: بالحج والعمرة جميعاً- قال: لبيك حجاً وعمرة.

وأما من معه من المسلمين فانقسموا إلى ثلاثة أقسام:

1- منهم: من كان قد ساق الهدي فأحرم قارناً كالنبي صلى الله عليه وسلم.

2- ومنهم: من لم يسق الهدي فحج مفرداً.

3- ومنهم: من تمتع.

فصاروا على ثلاثة أقسام: منهم من أحرم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ومنهم من أحرم بحج، ومنهم من أحرم بعمرة وحج.

وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت فبدأ بالطواف، فطاف سبعة أشواط مبتدئاً بالحجر، وفي هذا الطواف رمل ثلاثة أشواط -أي: أسرع في مشيه- ومشى أربعة أشواط، وفي هذا الطواف اضطبع بردائه فجعل وسطه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر من ابتداء الطواف إلى انتهائه.

ثم تقدم بعد الطواف إلى مقام إبراهيم فقرأ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً﴾ [البقرة:125] وصلى ركعتين قرأ فيهما ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ في الركعة الأولى، وفي الثانية ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مع الفاتحة. ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] «أبدأ بما بدأ الله به» فصعد على الصفا حتى رأى الكعبة فرفع يديه يدعو ويكبر ويهلل، وكان من ذكره في هذا المكان أن قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم يدعو، ثم أعاد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو، ثم أعاد الذكر مرة ثالثة، ثم انحدر متجهاً إلى المروة، وفي طريقه مر بالوادي مجرى السيل وهو نازل، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى عليه الصلاة والسلام -أي: ركض ركضاً شديداً- حتى صعد، ثم مشى إلى المروة، والوادي ليس موجوداً الآن؛ لأن السيول صرفت يميناً وشمالاً لكن موجود فيه علامة ذلك وهي العمود الأخضر من ابتداء أركان الوادي إلى انتهائه، صعد على المروة واتجه إلى القبلة وقال ما قاله على الصفا حتى أتم سبعة أشواط مبتدئاً بالصفا ومنتهياً بالمروة، فكان أول ابتدائه من الصفا وآخر شوط على المروة.

ثم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوا نسكهم عمرة، وأن يقصروا، ويحلوا من إحرامهم الحل التام حتى النساء.

ثم خرج من مكة ونزل في الأبطح بظاهر مكة حتى كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فخرج إلى منى وأحرم من حل من عمرته من مكانه، ثم توجه إلى منى في ضحى يوم الثامن ونزل فيها، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع.

ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة ونزل بمكان قبل عرفة يقال له: نمرة، حتى زالت الشمس، ثم ركب ناقته بعد ذلك -بعد زوال الشمس- ونزل في بطن الوادي وادي هرنة وخطب الناس خطبة عظيمة بليغة، ثم أذن وأقام فصلى الظهر ثم أقام وصلى العصر جمعاً وقصراً، ثم ركب حتى أتى الموقف الذي اختار أن يقف فيه عليه الصلاة والسلام عند الصخرات عند جبل عرفات، وعليه الآن علم قائم منصوب، وقف هناك إلى أن غربت الشمس، وكان على بعيره عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة يدعو الله تعالى يبتهل إليه؛ لأن خير الدعاء دعاء يوم عرفة.

ولما غابت الشمس واستحكم غروبها دفع متجهاً إلى مزدلفة، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالسكينة، وكلما أتى جبلاً من الجبال -يعني: أتى شيئاً مرتفعاً -أرخى لناقته الزمام حتى تصعد، وكلما وجد فجوة أسرع، وفي أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال له أسامة بن زيد وكان رديفه على ناقته: "الصلاة يا رسول الله! قال: «الصلاة أمامك» أي: في مزدلفة، وصل إلى مزدلفة بعد دخول وقت العشاء فصلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع في محل نزوله حتى تبين الصبح.

فلما تبين الصبح صلى الفجر بأذان وإقامة، ولم يذكر في هذه الليلة أنه أوتر ولا أنه صلى سنة الفجر، لكن المعروف من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدع الوتر حضراً ولا سفراً، وكذلك لا يدع ركعتي الفجر حضراً ولا سفراً، وبناءً على هذا العموم نقول: إن الوتر مشروع ليلة مزدلفة، وكذلك سنة صلاة الفجر.

ثم ركب بعد أن صلى الفجر حتى أتى المشعر الحرام، فوقف عنده ودعا ووحد الله وكبره إلى أن أسفر جداً، ودفع قبل أن تطلع الشمس متجهاً إلى منى على راحلته، ووقف عند الجمرة وأمر ابن عباس أن يلتقط له سبع حصيات فقط أخذهن بيده صلوات الله وسلامه عليه، وجعل يوترهن ويقول: «بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين» فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

ثم انصرف إلى المنحر فنحر وكان أهدى مائة بعير فنحر منها بيده الكريمة ثلاثاً وستين بعيراً، وأعطى علي بن أبي طالب الباقية فنحرها، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بلحومها وجلالها -يعني: حتى جلالها التي كانت مغطاة بها الظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به- وأمر أن يؤخذ من كل بعير قطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها.

ثم حلق عليه الصلاة والسلام رأسه وحل من إحرامه التحلل الأول، فتطيب صلى الله عليه وسلم ونزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، فطاف سبعة أشواط وليس فيها رمل ولا اضطباع؛ لأن الرمل والاضطباع لمن هم في الطواف الأول، ولم يسع بين الصفا والمروة؛ لأنه كان سعى بعد طواف القدوم، والقارن والمفرد إذا سعيا بعد طواف القدوم فإنهما لا يعيدان السعي، وصلى بمكة الظهر، ثم خرج إلى منى وبقي فيها ليلة الحادي عشر.

وفي اليوم الحادي عشر بعد الزوال ذهب ماشياً إلى الجمرات فرمى الجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم تقدم قليلاً ووقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو الله، ودعا دعاءً طويلاً ثم انصرف، ثم اتجه إلى الوسطى فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم تقدم قليلاً حتى وقف مستقبل القبلة رافعاً يديه إلى الله ودعا دعاء طويلاً، ثم رمى جمرة العقبة وانصرف إلى رحله.

وفي يوم الثاني عشر فعل مثلما فعل في اليوم الحادي عشر، وفي اليوم الثالث عشر فعل كذلك مثلما فعل في اليومين قبله؛ لأنه تأخر، وكان رميه صلى الله عليه وسلم في الأيام الثلاثة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر، ولهذا لما رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال نزل إلى مكة، وصلى الظهر في الأبطح في المحصف، وبات تلك الليلة -ليلة الرابع عشر- هناك، وفي آخر الليل أمر بالرحيل، فارتحل إلى المسجد الحرام وطاف بالبيت طواف الوداع وصلى الفجر بعد ذلك، ثم رجع قافلاً إلى المدينة، هذا هو خلاصة حج النبي صلى الله عليه وسلم.

ولنا في هذا وقفات:

أعمال أيام الحج: 

الموقف الأول: أيام الحج تبين أنها ستة أيام، وهي: اليوم الثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.

أعمال اليوم الثامن من أيام الحج: 

فماذا نفعل في اليوم الأول -الثامن-؟

يحرم الحجاج المحلون بالحج ضحى اليوم الثامن وينزلون في منى ويصلون فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، هذه أعمال اليوم الثامن وليلة التاسع.

أعمال اليوم التاسع من أيام الحج: 

في اليوم التاسع ينصرف الحجاج من منى إلى عرفة وينزلون إذا تيسر لهم في نمرة، وإن لم يتيسر فلا حرج أن يستمروا في سيرهم إلى عرفة فيصلون فيها الظهر والعصر جمعاً وقصراً، والجمع يكون جمع تقديم؛ من أجل أن يتسع الوقت للدعاء، ويتفرق الناس في مواقفهم، ولهذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع جمع تقديم في يوم عرفة لهذا السبب.

أولاً: ليطول وقت الوقوف.

وثانياً: ليتفرق الناس في مواقفهم؛ لأنهم لو تفرقوا قبل أن يصلوا العصر ما اجتمعوا على صلاة، فلهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم جمع تقديم.

ثم إن الموقف الذي وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هل هو متعين أو كل عرفة موقف؟ استمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وقفت هاهنا و عرفة كلها موقف» فأنت إذا وقفت في مكانك أديت السنة، ولا سيما في وقتنا الحاضر مع شدة الزحام والضياع الكثير لمن ذهب ليقف في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الأفضل أن يبقى في مكانه.

ثم اعلم أنك لو ذهبت إلى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم فأنت على خطر من الضياع ومن الجوع والعطش، ولن يتسنى لك أن تقف في ذلك الموقف إلى أن تغرب الشمس؛ لأنك لا بد أن تعود إلى رحلك قبل غروب الشمس وإلا لضعت بين هذه السيارات وفات الخشوع الذي يطلب من الإنسان في مثل هذه المشاعر، فالأفضل إذاً أن تقف في مكانك درءاً لهذه المفاسد أو لهذه المضارب.

في يوم عرفة يقف الناس في عرفة -بعد الصلاتين الظهر والعصر جمع تقديم- إلى أن تغرب الشمس، ولا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة قبل غروب الشمس، ودليل ذلك:

أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى غربت الشمس وقال: «خذوا عني مناسككم» وهذا أمر أن نتأسى به.

ثانياً: لو كان الدفع جائزاً قبل الغروب، لكان أول من يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك أيسر وأرفق بالأمة حيث يدفعون نهاراً، وقد كان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، ونحن إذا قلنا: إن الأيسر أن تدفع في النهار وقد امتنع منه الرسول صلى الله عليه وسلم نعلم أنه إثم؛ لأن من هديه أن يختار الأيسر ما لم يكن إثماً.

ثالثاً: أننا لو دفعنا قبل الغروب لكان في ذلك مشابهة بالمشركين، ومخالفة لهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ لأن المشركين يدفعون من عرفة قبل أن تغرب الشمس، إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كالعمائم على رءوس الرجال دفعوا.

أعمال اليوم العاشر من أيام الحج: 

في ليلة العيد ينزل الحجاج في مزدلفة فهل لهم أن يدفعوا قبل أن يصلوا الفجر؟ نقول: نعم، النساء والضعفاء الأفضل أن يتقدموا في الدفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم، والإنسان لا ينبغي له أن يعدل عن الرخصة لا سيما في وقتنا الحاضر مع الزحام، فإن الأولى أن يدفع النساء والصغار ومن لا يحتمل مزاحمة الناس في آخر الليل من أجل أن يرموا الجمرة قبل زحمة الناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن للنساء والصغار أن يدفعوا من آخر الليل.

في مزدلفة وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الفجر عند المشعر الحرام؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة:198] وهل لا بد أن يكون الوقوف هناك -أي: عند المشعر الذي هو محل المسجد اليوم-؟ لا، ليس من الضرورة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر وقال: «وقفت هاهنا وجامة كلها موقف» وجامة هي في مزدلفة.

في يوم العيد وبعد الوصول إلى منى فهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ما يأتي:

أولاً: رمى، ثم نحر، ثم حلق وحل، ثم نزل وطاف، وهذا هو الأفضل أن الإنسان يرتبها هكذا، الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، ثم السعي لمن كان متمتعاً، أو مفرداً، أو قارناً، ولم يكن سعى بعد طواف القدوم، هذه الأنساك الخمسة، أو الأربعة، لو أن الإنسان قدم بعضها على بعض فهل عليه من حرج؟ الجواب: لا.

اسمع الجواب من الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان لا يسأل في ذلك اليوم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج» حتى قال له سائل من الناس: "سعيت قبل أن أطوف؟ قال: «لا حرج» وهذا من رحمة الله عز وجل أن جعل فسحة للناس في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض حتى لا يجتمعوا على شيء واحد؛ لأن الناس إذا اجتمعوا كلهم على الرمي، أو كلهم على الطواف، أو كلهم على النحر لحصل في ذلك مشقة، لكن إذا فسح الأمر فصار هذا يذهب إلى مكة ويطوف، وهذا يذهب إلى المنحر وينحر، وهذا يذهب إلى المرمى ويرمي، حصل في ذلك توسعة.

ورد في بعض الأسئلة التي وردت على الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم أن السائل يقول: لم أشعر ففعلت كذا قبل كذا، وورد في بعضها الإطلاق، فهل نأخذ بهذا القيد ونقول: إنه لا يجوز اختلاف الترتيب إلا لإنسان لم يشعر؟

الجواب: لا، لا نقيد هذا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «افعل ولا حرج» وهذا شيء في المستقبل، لو قال: لا حرج عليك لقلنا: ربما يكون هذا الجواب مبنياً على السؤال، وأنه لا حرج على الإنسان إذا قدم بعضها على بعض في عدم الشعور، لكن لما قال: افعل ولا حرج، و (افعل) كما يعرف الناس أنها للمستقبل، علمنا أن الترتيب ليس بواجب، ولهذا لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصحح ما وقع، ويمنع مما يستقبل قال لأبي بكرة حينما ركع قبل أن يصل الصف: «زادك الله حرصاً ولا تعد» ولو كان هذا الترتيب واجباً لقال للسائل: لا حرج ولا تعد.

على كل حال: المتأمل للسنة في هذا يتبين له أن الأمر واسع، وأنه لا حرج أن يقدم الإنسان بعضها على بعض، سواء كان لعذر أو لغير عذر.

إذاً. في يوم العيد يفعل الحاج كم نسكاً؟ خمسة، إذا كان متمتعاً، أو كان مفرداً، أو قارناً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، وأربعة إن كان مفرداً، أو قارناً وسعى مع طواف القدوم؛ لأنه في هذه الحال يسقط عنه السعي. هذا في يوم العيد.

أعمال اليوم الحادي عشر من أيام الحج: 

في اليوم الحادي عشر، ليلة الحادي عشر الناس نازلون في منى والنزول في منى واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص لأهل الأعذار كالسقاة والرعاة أن يدعوا المبيت في منى، رخص لعمه العباس أن ينزل إلى مكة ليتولى السقاية -سقاية الناس من زمزم- وهذه مصلحة عامة، ورخص للرعاة -رعاة إبل الحجيج- ألا يبيتوا في منى، ويبيتوا في مراعيهم؛ لأنهم يشتغلون في مصلحة عامة، فدل هذا على أن غيرهم ليس له رخصة، وتهاون بعض الناس في المبيت بمنى لا وجه له إطلاقاً، فمن أراد السنة والحج المبرور فليتمسك بما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

في اليوم الحادي عشر يرمي الناس الجمرات بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمها إلا بعد الزوال، ولا يجوز تقديم الرمي في أيام التشريق على الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال، وقال: «خذوا عني مناسككم» ولولا أن الرمي قبل الزوال لا يصح لرخص للضعفاء والنساء أن يرموا قبل الزوال كما رخص لهم أن يرموا قبل طلوع الشمس في يوم العيد، ولو كان جائزاً -أعني: الرمي قبل الزوال- لفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرمي قبل الزوال أيسر على الناس من الرمي بعد الزوال.

إذاً. الرمي بعد الزوال معناه: انتظار اشتداد الحر، وهذا يشق على الناس، فلو كان الرمي في الصباح جائزاً لكان أيسر على الأمة، فلما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظر حتى الزوال علمنا أن الرمي قبل الزوال ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ويدلك على أنه لا يصح الرمي قبل الزوال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحين -أي: ينتظر حتى تزول الشمس- ومن حين تزول الشمس يرمي قبل أن يصلي الظهر، فكأنه ينتظر -كما يقولون- بفارغ الصبر أن تزول الشمس حتى يرمي.

ولا يغرنك ترخيص بعض العلماء المبني على غير قاعدة شرعية، ولو أننا أردنا أن نأخذ ترخيصاً مطلقاً لقلنا: كل أيام التشريق محل ذكر لله عز وجل، فارم في أي وقت شئت، لكن هذه أمور محددة ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة:203] من ذكر الله في الأيام المعدودات رمي الجمرات، هل نأخذ بإطلاق الآية ونقول: متى شئت فارم؟ الجواب: لا؛ لأن الأمر بالذكر هنا مطلق بينته السنة فلا تغتر.

لكن إذا قال قائل: إذا قلتم: إنه لا يكون الرمي إلا بعد الزوال والحجاج يبلغون مليون وخمسمائة ألف كيف يتسنى أن يرمي هؤلاء فيما بين الزوال إلى غروب الشمس، هذا صعب جداً؛ لأنك لو قسمت هذا العدد على هذا الزمن لوجدت أنه لا بد أن يرمي في الدقيقة كذا وكذا من المائة، أو نحو ذلك؟ نقول: الأمر واسع والحمد لله، يمكن أن ترمي بعد غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر من اليوم الثاني، والرمي بعد الغروب إن كان أداءً فهو أداء؛ لأن كثيراً من العلماء يقول: إن الرمي في أيام التشريق من الزوال إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني، وإذا قلنا بأنه لا يمتد إلى الليل، وأنه ينتهي بغروب الشمس قلنا: الرمي بعد غروب الشمس يكون قضاءً، فالحاج عجز أن يرمي في وقت الأداء، فليرم في وقت القضاء، والأمر واسع والحمد لله.

فإن قال قائل: النهار تبع لليل، وأنت إذا قلت: ترمي اليوم الحادي عشر في ليلة الثاني عشر جعلت الليل تابعاً للنهار والحال أن النهار تابع لليل؟ قلنا: لا غرابة في ذلك، أليس الناس في عرفة يقفون من الزوال إلى طلوع الشمس من يوم النحر، فليلة النحر الآن تابعة لليوم التاسع وهي ليلة العاشر فلا غرابة في هذا.

إذاً. في اليوم الحادي عشر ماذا نصنع؟ نرمي الجمرات الثلاث، مرتبة كما سمعتم: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة.

أعمال اليوم الثاني عشر من أيام الحج: 

في ليلة الثاني عشر: يبيت الحجاج في منى، وعرفتم أن البيتوتة في منى واجبة، وأنه لا يجوز التهاون بها، وفي اليوم الثاني عشر نرمي الجمرات كما رميناها في الحادي عشر، ثم من أراد أن يتعجل فلينصرف من منى ومن أراد أن يتأخر فليبق؛ لأن الله خير، فقال: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة:203] وأيهما أفضل؟ التأخير أفضل؛ لأن الله أثنى على المتأخرين فقال: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر، والتأسي به خير، ولأن في التأخر زيادة عمل صالح كالبيتوتة ورمي الجمرات.

إذا انتهى الحج وأراد الإنسان أن يرجع إلى بلده فلا بد أن يطوف للوداع بدون سعي، وبدون إحرام، سبعة أشواط، ثم ينصرف فوراً إلى بلده، ويكون طواف الوداع آخر شيء، وعلى هذا فمن طاف للوداع ثم خرج، ورمى، ومشى من منى فإن طوافه في غير محله، ويكون كالذي لم يطف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». وقد أمر أن يكون طواف الوداع آخر شيء، ويسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "إن صفية قد طافت طواف الإفاضة وكانت حائضاً، قال:« فلتنفر» أي: ولا وداع عليها، ولحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن الحائض».

قال العلماء رحمهم الله: لو أخر طواف الإفاضة الذي يكون يوم العيد فطافه عند السفر أجزأه عن طواف الوداع، كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد، أي: لو دخلت المسجد وصليت الفريضة الرباعية، أو الثلاثية، أو الثنائية، أجزأتك عن تحية المسجد، كذلك طواف الإفاضة فريضة، وهو أوكد من طواف الوداع، إذا طفته عند السفر أجزأك عن طواف الوداع.

ولكن ماذا تنوي؟

نقول: النية هنا لها ثلاث صور:

1- إما أن ينوي طواف الوداع وحده.

2- أو طواف الإفاضة وحده.

3- أو ينويهما جميعاً.

إذا نوى طواف الوداع وحده لم يجزئه عن طواف الإفاضة؛ لأنه لا يجزئ الأدنى عن الأعلى، وقد ذكرت لكم: أن طواف الإفاضة أعلى من طواف الوداع؛ بدليل: أن طواف الوداع يسقط عن الحائض، وطواف الإفاضة لا يسقط.

وإذا نوى طواف الإفاضة وحده أجزأ عن طواف الوداع، وإذا نواهما جميعاً حصلا له جميعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».

مسائل عند العامة في الحج: 

يقولون: إن من عليه قضاء رمضان ولم يصم فلا حج له، وهذا غير صحيح؛ لأنه لا علاقة بين قضاء رمضان والحج.

ويقول بعضهم: من لم يعق عنه فلا حج له، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنه لا علاقة بين الحج والعقيقة.

ويقول بعضهم: إذا كانت المرأة حائضاً ولم تطف طواف الإفاضة لبست حفاظة على فرجها وطافت وهي حائض، وهذا لا صحة له؛ لأن هذا لو كان جائزاً؛ لقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صفية: لتستذفر بثوب، وتطوف، كما قال لأسماء بنت عميس حين ولدت في ذي الحليفة وأرسلت إليه: كيف أصنع يعني: في الإحرام؟ قال: «اغتسلي واستذفري بثوب وأحرمي».

ولكن ماذا نفعل إذا كانت المرأة حائضاً، ولم تطف طواف الإفاضة، وأهلها سيسافرون ماذا تصنع؟ نقول: إن كانت في بلاد السعودية فأمرها سهل، لها طريقان:

إما أن تبقى هي ومحرمها في مكة حتى تطهر، وتطوف، وهذا -والحمد لله- سهل ممكن أن تبقى هي ومحرمها، وإذا طهرت وطافت سافرا بأي وسيلة بطائرة، بسيارة النقل الجماعي، بسيارة خصوصية، بأي وسيلة؛ لأنه سهل في المملكة.

أو أنها تسافر إلى مكان عملها، وتبقى على التحلل الثاني؛ لأنها لم تحل إلا التحلل الأول فلا يحل لزوجها أن يستمتع بها، ولا يعقد عليها النكاح، فإذا طهرت عادت إلى مكة، وطافت طواف الإفاضة، إلا أنه في هذه الحال ينبغي أن تحرم بعمرة من الميقات وتطوف، وتسعى، وتقصر للعمرة، ثم تأتي بطواف الإفاضة، هذا إذا كانت في البلاد السعودية.

وإذا كانت في الخارج فهنا نختار ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنها تتلجم تتحفظ -بأن تضع شيئاً على فرجها يمنع من تسرب الدم إلى المسجد- وتطوف ولو كانت حائضاً، وذلك للضرورة؛ لأن من لم تكن في المملكة يشق عليها الرجوع، ويشق عليها أن تبقى مع محرمها متخلفة عن القافلة، وقد قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام:119] فالضرورات تبيح المحظورات.

فإذا كان طواف الحائض حراماً، واضطرت إلى ذلك، فإنها تفعل ما يخشى منه المحظور، وهو أن تتحفظ -تضع خرقة على فرجها حتى تمنع تسرب الدم إلى المسجد- وتطوف.

ولعل ما قلناه الآن فيه الكفاية.

والله الموفق.