تفسير آيات من سورة الذاريات
مدة الملف
حجم الملف :
5646 KB
عدد الزيارات 1973

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الثاني والأربعون بعد المائة من لقاءات الباب المفتوح الذي يتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو العاشر من شهر رجب عام 1417هـ. نبدأ فيه كالعادة في تفسير ما تيسر مما وقفنا عليه في سورة الذاريات.

تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين): 

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20]. (وفي الأرض آيات للموقنين) لم يبين الله عز وجل هذه الآيات، بل جاءت مُنَكَرة؛ ليشمل كل آية في الأرض، سواء كانت الآيات فيما يحدث فيها من الحوادث، أو كانت في نفس طبيعة وتركيب الأرض، فإن فيها آياتٍ عظيمة.

في الأرض آيات من حيث التركيب، كما قال الله عز وجل: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد:4] فتجد الحجر الواحد يشتمل على عدة معادن، وهو حجر واحد، وترى أحياناً في الجبال ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر:27]. وتجد فيها الأرض اللينة، والرخوة، والصلبة، إلى غير ذلك مما يعرفه علماء الجيولوجيا من الآيات العظيمة.

فيها آيات من جهة الحوادث التي تحدث فيها، من الزلازل والبراكين وغيرها.

فيها آيات -أيضاً- من جهة طبيعة الجو، من حر وبرد، ورياح عاصفة، ورياح باردة، ورياح دافئة، وغير ذلك مما إذا تأمله الإنسان عرف بذلك قدرة الله عز وجل من جهة، وعرف حكمته ورحمته -أيضاً- من جهة أخرى؛ لأن آيات الله سبحانه وتعالى يتبصر بها الإنسان لا من حيث القدرة والعظمة بل حتى من حيث الحكمة والرحمة؛ لأن كل شيء تجده مناسباً لمكانه وزمانه، وكل شيء تجده من آثار رحمة الله تبارك وتعالى.

المهم أن كلمة (آيات) نجد أنها نكرة عامة لكل ما يحدث في الأرض من آيات، ولكل ما فيها من طبيعتها وتركيبها وغير ذلك.

﴿آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ أي: لمن أيقن بوجود الله عز وجل وعظمته وجلاله، أما من شك -والعياذ بالله- فإنه لن ينتفع بهذه الآيات، بل قد تكون هذه الآيات ضرراً عليه.

فإن الآيات الكونية أو الشرعية قد تكون خيراً للإنسان وقد تكون شراً، واستمع إلى قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ [التوبة:124] أي: من القرآن ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة:124-125]. كذلك الآيات الكونية.

من الناس من ينتفع بها ويستدل بها على ما فيها من آيات الله عز وجل، ومن الناس من يكون بالعكس يؤدي ما يجده من الآيات إلى الإلحاد والعياذ بالله، ولهذا قال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات:20] أي: ليس لكل إنسان بل للموقن، أما الشاك والمتردد والكافر فإنه لن ينتفع بهذه الآيات.

تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون): 

وفي الآيات التي بعدها ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ [الذاريات:21] أيضاً في أنفسكم آيات ﴿ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:21] و(آيات) محذوفة هنا، ولهذا نقول في الإعراب: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ [الذاريات:21] جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: (وفي أنفسكم آيات) والحكمة -والله أعلم- ونحن بعلمنا القاصر نظن أن الله حذف هذه الآيات؛ لأنها أمس بالإنسان من الأرض، وأدخل بالإنسان من الأرض؛ لأنها هي في نفسه (في أنفسكم آيات).

آيات النفس ليس في تركيب الجسم فحسب، وليس فيما أودعه الله تعالى من القوى فحسب، بل حتى في تقلبات الأحوال.

الإنسان تجده يتقلب من سرور إلى حزن، ومن غم إلى فرح، وتقلبات عجيبة عظيمة، حتى إن الإنسان في لحظة يجد نفسه متغيراً بدون سبب، يكون منشرح الصدر واسع البال مسروراً، وإذا به يغتم بدون سبب، أحياناً بالعكس، هذا بالنسبة للأحوال النفسية.

كذلك -أيضاً- بالنسبة للإنسان بالأحوال الإيمانية، وهي أعظم وأخطر، تجد الإنسان في بعض الأحيان يكون عنده من اليقين ما كأنه يشاهد أمور الغيب مشاهدة حسية، كأنما يرى العرش، وكأنما يرى السماوات، أو يرى الملائكة، أو يرى كل ما أخبر الله به من أمور الغيب، وفي بعض الأحيان يقل هذا اليقين لأسباب قد تكون معلومة وقد تكون غير معلومة، لكن من الأسباب المعلومة قلة الطاعة، فإن قلة الطاعة من أسباب ضعف اليقين، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة:49]. وهناك -أيضاً- أسباب لا يدري الإنسان ما هي، ومنها: اللهو والغفلة، ولهذا قال الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام: "إنا إذا كنا عندك وذكرت الجنة والنار فكأنما نراها رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وعافسنا الأولاد والأهل -أو كما قالوا- نسينا" وهكذا الإنسان كلما التهى قل يقينه وإيمانه، ومن ثم نهى الشرع عن الألعاب واللهو الباطل الذي يزداد به الإنسان بعداً عن طاعة الله، وعن التفكير في آيات الله.

أيضاً في النفس فيها آيات في نفوس الناس، من الناس من تجده هيناً ليناً طليق الوجه مسروراً كل من رآه سُر في وجهه، وكل من جلس إليه زال عنه الغم والهم، ومن الناس من هو بالعكس قطوب عبوس بمجرد ما تراه لو كنت مسروراً لأتاك الحزن والسوء، هذه -أيضاً- من آيات النفس وهي كثيرة جداً، ومن أراد المزيد من هذا والاطلاع على قدرة الله تعالى فيما في أنفسنا من الآيات فعليه بمطالعة كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة، يجد العجب العجاب، وكذلك -أيضاً- في كتابه الصغير وهو كبير في المعنى وهو التبيان في أقسام القرآن، ذكر من ذلك العجب العجاب.

﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار، كأن الله عز وجل يقول: ابصروا في أنفسكم، تبصروا، تأملوا، تفكروا، فإذا لم تعرفوا هذه الآيات فأنتم لا تبصرون، فيكون الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار، ألا نتبصر، وهي دعوة من الله عز وجل لعباده أن يتبصروا في الآيات، إذا لم تتبصر في الآيات فاعلم أنك محروم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس:101].

إذاً، إذا لم تتعظ بالآيات فاعلم أنك محروم وأن إيمانك ناقص ﴿وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس:101] فعليك يا أخي، أن تتفكر، في آيات الله الكونية، وما في هذا الكون العظيم من آيات الله الدالة على عظمته، وسلطانه، ورحمته، وحكمته، وكذلك في آيات الله الشرعية ومن فتح الله عليه في الآيات الشرعية ينتفع بها أكثر مما ينتفع بالآيات الكونية، إذا تأمل ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات والأفعال والأحكام ازداد إيماناً بالله عز وجل، وعرف بذلك الحكمة والرحمة.

إذا تأمل فيما أخبر الله به عن اليوم الآخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب، وجزاء وحساب -أيضاً- ازداد إيماناً بالله، وكلما تأمل الإنسان في آيات الله الشرعية ازداد إيمانه، وبعض الناس الموفقين يكون ازدياد إيمانه بالآيات الشرعية أكثر من ازدياد إيمانه بالآيات الكونية، أما الإنسان الذي يفتح الله عليه في هذا وهذا فيا حبذا.

تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون): 

قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات:22] السماء فيها رزق، فما رزقنا هذا؟ ذهب كثير من العلماء أن المراد بالرزق هنا المطر؛ لأن الله تعالى قال: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ [غافر:13]. فقال في السماء: (رزقكم) أي: المطر، وسمي المطر رزقاً؛ لأنه سبب للرزق، إذا أنزل الله المطر أخرجت الأرض الماء والمرعى متاعاً لنا ولأنعامنا، وهذا رزق، كم من أناس يكون رزقهم على ما ينزل من المطر، من الزروع والحشيش والمياه وغيرها، بل إن الله تعالى قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۞ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ [الواقعة:68-69]. هل أحد يستطيع أن ينزل من المزن ماءً؟ لا يمكن. هل أحد يستطيع أن يخلق في المزن ماءً؟ لا يمكن.

الله عز وجل هو الذي يتولى ذلك، هذا هو مادة الرزق، لولا الماء لهلكنا، وتأمل قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ۞ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة:69-70]. لم يقل: لو نشاء لم ننزل، مع أنه لو شاء لم ينزل، لكن قال: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً﴾ [الواقعة:70] أي: لو نشاء أنزلناه، لكن جعلناه أجاجاً مالحاً لا يمكن أن يُشرب، وحسرة الإنسان على ماء بين يديه ولكن لا يستطيعه ولا يستسيغه أشد من حسرته على ماء مفقود؛ لأن الماء الموجود الذي لا تنتفع به ولا تستطيع شربه أشد حسرة من الماء المفقود، ولهذا ذكرنا الله هذه الحالة، أرأيتم الآن هذا المطر العذب الزلال اللذيذ صار أجاجاً مالحاً كيف تكون الحال؟ صعبة جداً، ولهذا قال: ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة:70]. يقول: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾ [الذاريات:22] إذاً، الرزق هو المطر، كما في الآية الكريمة: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً﴾ [غافر:13]. ويمكن أن نقول: إن الرزق الذي في السماء أعم من ذلك، فقد يقال: إن في السماء رزقنا من المطر، وما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ من المصالح والمنافع الجسدية من أموال وبنين، وغير ذلك، فيكون هذا القول أشمل وأعم.

واعلم أنه ينبغي أن يراعي المستدل بالقرآن والسنة قاعدة وهي: إذا فسرنا النص القرآني أو النبوي بمعنى أقل وفسرناه بمعنى أعم، فأيهما نأخذ؟ نأخذ بالأعم؛ لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، اللهم إلا إذا دل دليل على أنه خاص فهذا يتبع فيه الدليل، لكن عندما لا يدل الدليل خذ بالأعم؛ لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس.فهنا إذا قلنا: المراد بالرزق ما هو أعم من المطر، فالجواب صحيح، فيدخل فيه المطر والشمس والقمر وغيره.

وقوله: ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ أي: وفيه الذي توعدون، فما الذي نوعد؟ الذي نوعد الجنة، والجنة في السماء وليست في الأرض; ولهذا قال الله في قصة آدم: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا﴾ [البقرة:38] والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، فالجنة في السماء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة درجات، وأن أعلاها الفردوس، وأنه أعلاها وأوسطها، وهو إشارة إلى أن الجنات مثل القبة، أعلاها هو وسطها، قال: «ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» إذاً، هي أعلى شيء، -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من ساكنيها، إنه على كل شيء قدير- فالذي نوعد هو الجنة، فالرزق في السماء، والجنة التي نُوعدها في الآخرة في السماء. إذاً. نحن أهل الأرض مرتقبون إلى السماء في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ففي السماء رزقنا في الدنيا، وفيها ما نوعد في الآخرة وهي الجنة.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.