تفسير آخر سورة الحجرات
مدة الملف
حجم الملف :
2170 KB
عدد الزيارات 1139

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإننا نبتدئ هذا اللقاء لقاء يوم الخميس، الرابع من شهر صفر عام (1417هـ) في جملة لقاءات الباب المفتوح، وذلك ضمن برنامج مستمر -ولله الحمد- نسأل الله تعالى أن يجعل فيه الخير والبركة، وهذه هي الحلقة الثامنة والعشرون بعد المائة، بل هذا هو اللقاء الثامن والعشرون بعد المائة، ونفتتحه بالكلام على ما تيسر، أو بما تيسر من الكلام على تفسير قول الله لرسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:17]:

في هذه الآية تكررت (أَنْ) مرتين ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ...﴾ [الحجرات:17] تكررت مرتين، وهي على تقدير الباء، أي: يمنون عليك -يا محمد- بإسلامهم، هذا هو التقدير، وحذف الجار مع (أَنَّ) و(أَنْ) مُطَّرِدٌ، كما قاله ابن مالك -رحمه الله- في الألفية، في الخلاصة يقول -رحمه الله-: إن حذف الجار مع (أَنَّ) و(أَنْ) يَطَّرِد مع أَمْنِ اللبس.

﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ﴾ أي: بأن أسلموا، أي: بإسلامهم، ويعني بذلك: قوماً أسلموا بدون قتال، فجعلوا يَمُنُّون على الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يذكرون الفضائل ويقولون: إننا نحن آمنا بك ولم نقاتلك، كما قاتلك الناس، مع أن المصلحة لِمَنْ؟ المصلحة لهم؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾. وقوله: بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ هذا إضرابٌ لإبطال ما سبق، أي: ليس لكم مِنَّةٌ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- بإسلامكم، بل المنة لله -عز وجل- عليكم أن هداكم للإيمان، ولا شك أن هذا أعظم مِنَّة، أن يمن الله تعالى على العبد بالهداية للإيمان، مع أن الله أضل كثيراً من الأمة عنه، فإن بني آدم منهم تسعمائة وتسعة وتسعون كلهم في النار، وواحد من الألف في الجنة، فمن وُفِّق لأن يكون من أهل الجنة، فذلك مِنَّة من الله عليه عظيمة؛ ولهذا كان الأنصار -رضي الله عنهم-؛ حينما جَمَعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم قَسَّم غنائم حنين - كلما ذكر لهم شيئاً قالوا: الله ورسوله أمَنُّ، قال: ألَمْ أجِدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، قال: ألَمْ أجِدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، كلما ذكر شيئاً قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، فالمِنَّة لله علينا، على كل من هداه الله، وأنعم الله عليه بنعمة، فالمِنَّة لله -عز وجل- عليه.

وقوله: ﴿إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات:17] أي: إن كنتم من ذوي الصدق، القائلين به، فاعرفوا أن المِنَّة لله عليكم ﴿بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات:18] أخبر الله بهذه الآية أنه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض، وما ظهر فهو من باب أولى.

وأخبر -عز وجل- أن من جملة ما يعلمه: عمل بني آدم ولهذا قال: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  وهذه الآية تفيد مسألةً عظيمةً في سلوك الإنسان وعمله، وهي: أن يعلم بأن الله تعالى بصير بعمله محيط به، فيخشى الله ويتقيه.

نسأل الله تعالى أن يَمُنَّ علينا وعليكم بالهداية والتوفيق، ويا حبَّذا لو أن أحدكم تكلم على هذه السورة، واستنبط ما فيها من الآداب العظيمة، وجمعها، حتى تكون مرجعاً له عند الحاجة.

ولقد رأيت بعض الناس ألَّف تأليفاً مستقلاً فيما يُستَنْبَط من هذه الآيات الكريمة من الآداب والأخلاق، وهي جديرةٌ بذلك.

نسأل الله أن يَمُنَّ علينا وعليكم بالأخلاق الفاضلة، والآداب العالية، إنه على كل شيءٍ قديرٌ.