مواسم الخير بعد رمضان
مدة الملف
حجم الملف :
4187 KB
عدد الزيارات 1878

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذا هو اللقاء السابع عشر بعد المائة من لقاءات الباب المفتوح، والذي يتم كل خميس في كل أسبوع، وهذا هو اللقاء الأول بعد شهر رمضان عام (1416هـ).

من المعلوم أن الله -سبحانه وتعالى- جعل مواسم للخيرات يتسابق فيها المتسابقون إلى الطاعات من أجل تنشيط الهمم، وإكثار الأعمال الصالحة وإحسانها؛ لأنه كلما تكررت هذه المواسم قويت العزائم، ولكن يا ترى: هل إذا فاتت هذه المواسم فاتت الأزمان التي هي مقر الأعمال، أم أن الأعمال باقية ما بقي الإنسان على هذه الدنيا؟

الجواب: الثاني.وهو أن الأعمال الصالحة مطلوبة من العبد ما دام في هذه الحياة الدنيا، قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة:132] أي: استمروا على إسلامكم إلى الموت، وقال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:99] أي: الموت، كما فسره بذلك الحسن البصري وغيره من العلماء، فلم يجعل الله أمداً لانقطاع العمل إلا الموت، فالإنسان مأمور أن يقوم بطاعة الله -سبحانه وتعالى- ما دام في هذه الحياة.

مواسم الصيام بعد رمضان: 

لقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فلم يجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- انقطاع العمل إلا بالموت.

ولننظر هل لهذه الأيام وظائف يقوم بها العبد تقرباً إلى الله -عز وجل-؟ نقول: نعم، فمثلاً: انتهى شهر الصيام هل انتهى الصوم؟ الصوم لا يزال مشروعاً -والحمد لله- في كل وقت، وأعلاه وأفضله ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً، وهذا هو صيام داود، ثم يليه بعد ذلك ما كان أكثر فأكثر، ومن هذا صيام أيام الست من شوال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر». وهذه الأيام لا يدرك فضلها إلا إذا أتم الإنسان رمضان كاملاً، وعلى هذا فمن كان عليه قضاء وصامها قبل القضاء فإنه لا ينال الثواب الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- ورتبه على صيام رمضان كاملاً «من صام رمضان ثم أتبعه».

ويتبين هذا بالمثال: لو أن إنساناً عليه خمسة أيام من رمضان، ثم أخر قضاءها وصام الأيام الستة قبلها، فهل يقال: إنه صام رمضان؟ لا، يقال: إنه صام خمسة وعشرين يوماً من رمضان، فلا بد من صيام رمضان كاملاً حتى ينال أجرها، وهذا ليس مبنياً على خلاف العلماء -رحمهم الله- في جواز التنفل بالصوم قبل القضاء، بل هذه مسألة مستقلة بين الرسول -عليه الصلاة والسلام- حكمها.

وأن صيام ستة أيام من شوال بمنزلة الراتبة التي تكون بعد الصلاة المفروضة، أما التطوع بغير الست بالصوم قبل القضاء فهذا محل نزاع بين العلماء، فمنهم من أجازه، ومنهم من قال: إنه لا يجوز أن يصوم تطوعاً حتى يؤدي الفريضة، وهذا أحوط وأولى بالمرء وأحق بالعمل؛ لأنه ليس من الخير أن تبدأ بالنفل وتدع الواجب.

فالواجب أهم؛ إذ أنك لو مت لكان ديناً في ذمتك، لكن النفل إن فعلته فهو خير، وإن لم تفعله فليس عليك إثم ولا حرج. ومن ذلك أيضاً، أي: من الصيام المشروع: أن يصوم الإنسان من كل شهر ثلاثة أيام، سواء من أول الشهر أو وسطه أو آخره، لكن الأفضل أن تكون في اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.

ومن ذلك: أنه ينبغي للإنسان أن يصوم يوصى الإثنين والخميس، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومهما ويقول: «هما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم».

ومنها: صوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة لغير الحاج، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده».

وكذلك: صيام بقية الأيام العشرة من أول ذي الحجة إلى يوم التاسع، فإن الصوم فيها له مزية على غيرها من الأيام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» والصيام من العمل الصالح بلا شك، ومما ينبغي صومه: صوم يوم العاشر من المحرم والتاسع معه أو الحادي عشر أو الثلاثة جميعاً، التاسع والعاشر والحادي عشر، أو صوم غالب شهر محرم.

ومن الصيام المشروع أيضاً: صيام شعبان، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كله أو يصومه إلا قليلاً منه، كما ثبت ذلك عن عائشة -رضي الله عنها-.

قيام الليل: 

القيام هل انتهى بانتهاء رمضان؟ الجواب: لا، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم جميع ليالي السنة، ولكنه كما قال الله عنه: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [المزمل:20] وأفضل قيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وهذا كما أنه أفضل شرعاً فهو أرفق بالإنسان طبعاً؛ لأن الإنسان عندما ينام نصف الليل يأخذ نوماً كثيراً، ثم يقوم ثلث الليل فيتهجد لله -عز وجل-، ثم ينام سدس الليل ليستريح قبل أن يبدأ أعماله اليومية؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل قيام قيام داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه».

وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الله ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر, فيقول: من يدعوني أستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» فإذا اجتمع وقت النزول الإلهي مع كون الإنسان يتهجد لله -عز وجل-، ويتقرب إليه «وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» حصل في هذا خير كثير للإنسان.

الإنفاق في الخيرات: 

ثم بقية العبادات لا تزال مشروعة والحمد لله كالوضوء والذكر قبله وبعده، وكذلك الإنفاق في سبيل الله، سواء كان صدقة يتصدق بها على غيره، أو يتصدق بها على أهله بالإنفاق عليهم أو على نفسه، حتى الإنسان إذا أنفق على نفسه كان ذلك صدقة يثاب عليها ويؤجر عليها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك» فقال: « .. حتى ما تجعله في فم امرأتك» مع أن الإنفاق على الزوجة من باب المعاونة؛ لأنك تنفق عليها في مقابل استمتاعك بها، ومع هذا تؤجر عليه.

وقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله» قال الراوي: أو أحسبه قال: «كالصائم لا يفطر وكالقائم لا يفتر» والساعي على الأرملة والمساكين هو القائم بحضانتهم وكفايتهم وتوجيههم وتربيتهم، وهذا يشمل حتى المساكين الذين هم تحت رعايتك من الأولاد ذكوراً كانوا أم إناثاً، وكذلك الأخوات والزوجات وغيرهم.

فالمهم أن فضل الله واسع والحمد لله، والعبادات كثيرة نسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

موسم حج بيت الله الحرام: 

ومن حكمة الله -عز وجل- أنه لما انتهى موسم فرض الصيام بانتهاء رمضان دخل موسم حج البيت الحرام الذي هو ركن من أركان الإسلام أيضاً، فإن أشهر الحج تبتدئ من أول يوم من شوال؛ إذ أن أشهر الحج: شوال، ذو القعدة، ذو الحجة، وهذه الأشهر كلها زمن لأداء الحج سواء أكان فريضة أم تطوعاً، وجعل الله تعالى هذه الأشهر؛ لأنه قد يحتاج الناس إليها كما لو كانوا في بلاد بعيدة وكانت المواصلات صعبة، فإن هذه المدة هي التي تكفي غالباً إلى الوصول إلى البيت؛ ولهذا كان الناس فيما سبق يتأهبون للحج من دخول شهر شوال، أما الآن والحمد لله وقد سهلت المواصلات فإنهم ربما لا يتهيئون ولا يستعدون إلا في زمنٍ متأخر، ولا نعلم فلعل يوماً من الأيام أن يحتاج الناس إلى ما كانوا يحتاجون إليه من قبل من الإبل والبغال والحمير، فلا ندري هل الأمور تبقى على ما هي عليه الآن أم تختلف، الأمر كله بيد الله -عز وجل-! فالإنسان متقلب دائماً بين مواسم الخير، صوم وحج ثم يأتي بعد ذلك شهر محرم، وهكذا أبداً، فلله الحمد على هذه النعمة.

ونسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.