الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا هو اللقاء السادس بعد المائة من اللقاءات المعبر عنها بـ(لقاء الباب المفتوح) التي يتم بها اللقاء كل خميس من كل أسبوع، وهذا الخميس هو الثاني من شهر جمادى الثانية عام (1416هـ) نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزق الجميع علماً نافعاً وعملاً صالحاً.
في هذا اللقاء سنتكلم عن سورتين من كتاب الله -عز وجل- أولاهما: سورة النص، يقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر:1] ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾ [النصر:2] ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر:3] الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- لا شك فيه.
تفسير قوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح:
يقول الله -عز وجل-: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر:1] النصر: هو تسليط الإنسان على عدوه، بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته، وهو -أعني النصر-: أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله؛ لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة وفرحاً وطرباً، لكنه إذا كان بحق فهو خير، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» أي: أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينهم مسافة شهر.
والرعب: أشد شيء يفتك بالعدو؛ لأن الذي حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبداً، بل سيطير طيران الريح. فقوله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر:1] أي: نصر الله إياك على عدوك.
﴿وَالْفَتْحُ﴾ [النصر:1] معطوف على النصر، والفتح به نصر لا شك، لكنه عطفه على النصر تنويهاً بشأنه، وهو من باب عطف الخاص بالعام، كقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ [القدر:4] أي: في ليلة القدر، فالملائكة هم الملائكة والروح جبريل، وخصه بذكره لشرفه.
وفي قوله: ﴿وَالْفَتْحُ﴾ [النصر:1] للعهد الذهني، أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتح مكة.
وكان فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، وسببه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صالح قريشاً في غزوة الحديبية الصلح المشهور نقضوا العهد، فغزاهم النبي -عليه الصلاة والسلام-، وخرج إليهم مختفياً وقال: «اللهم عم أخبارنا عنهم» فلم يفاجئهم إلا وهو محيط بهم -عليه الصلاة والسلام-.
ودخل مكة في العشرين من شهر رمضان عام (8 هـ) منصوراً مظفراً مؤيداً، حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب يقول: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟) وهو الذي كان قبل ثماني سنوات هارباً منهم، وهو الآن في قبضته وتحت تصرفه.
قال: «(ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «إني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته:» لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف:92]) ثم منَّ عليهم -عليه الصلاة والسلام- بالعفو، فعفى عنهم.
هذا الفتح سماه الله تعالى فتحاً مبيناً، فقال: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ [الفتح:1] أي: بيناً عظيماً واضحاً، ولما حصل عرف العرب، بل عرف الناس جميعاً أن العاقبة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن دور قريش وأتباعها قد انقضى، فصار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، أي: جماعات بعدما كانوا يدخلون فيه أفراداً ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحيان إلا مختفياً، صاروا يدخلون أفواجاً في دين الله، وصارت النفوذ ترد على النبي -عليه الصلاة والسلام- في المدينة من كل جانب، حتى سمي العام التاسع عام الوفود، فجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.
تفسير قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً:
يقول الله -عز وجل-: إذا رأيت هذه العلامة: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر:3] كان متوقع أن يكون الجواب: فاشكر الله على هذه النعمة، واحمد الله عليها، نصر وفتح، ما جزاؤه من العبد؟ الشكر، هذا هو المتوقع، لكن صار المتوقع على خلاف ما نتوقع، قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر:3] وهذا نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ۞ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الإنسان:23-24] كان المتوقع ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً﴾ أن يقال: فاشكر ربك على هذا التنزيل، وقم بحقه وما أشبه ذلك، لكن قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ إيذاناً بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة.
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ فكان الجواب يبدو متناكراً مع الشرط، لكن عندما تتأمل تعرف الحكمة، المعنى: أنه إذا جاء نصر الله والفتح، فقد قرب أجلك فما بقي عليك إلا التسبيح والحمد.
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ أي: سبحه تسبيحاً مقروناً بالحمد، والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله، والحمد: هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم.
اجمع بين التنزيه وبين الحمد ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ أي: اسأله المغفرة، فأمره الله تعالى بأمرين:
الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد.
الأمر الثاني: الاستغفار، وهو: طلب المغفرة، والمغفرة: ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها، وهذا غاية ما يريد العبد؛ لأن العبد كثير الذنْب يحتاج إلى مغفرة، إن لم يتغمده الله برحمته هلك؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
اللهم تغمدنا برحمتك، لا أحد يدخل بعمله الجنة أبداً؛ لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابل نعمة من النعم -نعمة واحدة- لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا يقول بعض العارفين في نظم له:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة *** علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيام واتصل العمر
قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر:3] أي: لم يزل -عز وجل- تواباً على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة، لكن السورة لها مغزىً عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء؛ ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن الناس انتقدوه في كونه يدني عبد الله بن عباس مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين- و عمر -رضي الله عنه- من أعدل الخلفاء الراشدين أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء، فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبد الله بن عباس وقال: ما تقولون في هذه السورة: إذا جاء نصر الله والفتح؟ ففسروها بحسب ما يظهر فقط، فقال: ما تقول يا بن عباس؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعنى كأن الله يقول له: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۞ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾ [النصر:1-2] فقد انتهت مهمتك، ولن يبقى عليك إلا الرحيل- وأنت ما خلقت للدنيا لتتنعم فيها وتبقى فيها طويلاً، خلقت لمهمة انتهت، فهو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقال عمر: والله ما أعلم منها إلا ما تعلم، فتبين من ذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله -عز وجل- ما افتقده كثير من الناس؛ لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله، جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, اللهم اغفر لي» فنقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
تفسير سورة المسد:
أما السورة الثانية فهي قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ۞ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ۞ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ۞ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ۞ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:1-5].
سبحان الله! هذا القرآن فيه من الدلالات الكثيرة ما يدل دلالة واضحة على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق، ليس لعلوه ولا لجاهه ولا لرئاسة قومه أبداً، له أعمام انقسموا في معاملته ومعاملة ربه -عز وجل- إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: آمن به، وجاهد معه، وأسلم لله رب العالمين.
القسم الثاني: ساند وساعد لكنه باقٍ على الكفر -والعياذ بالله-.
القسم الثالث: عاند وعارض وهو كافر.
أما القسم الأول: فالعباس بن عبد المطلب، و حمزة بن عبد المطلب، والثاني أفضل من الأول؛ لأن الثاني من أفضل الشهداء عند الله -عز وجل- ووصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه أسد الله وأسد رسوله، واستشهد -رضي الله عنه- في أحد في السنة الثانية من الهجرة- جمعني الله وإياكم به في جنات النعيم -.
أما القسم الثاني: من ساند وساعد مع بقايا الكفر فهو أبو طالب الذي قام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خير قيام في الدفاع عنه، ومساندته، ولكنه -والعياذ بالله- قد سبقت له كلمة العذاب، فلم يسلم حتى في آخر حياته وفي آخر لحظة من الدنيا عرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسلم ولكنه أبى، ومات على قوله: إنه على ملة عبد المطلب، فشفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى كان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه.
أما القسم الثالث: الذي عاند وعارض فهو أبو لهب أنزل الله فيه سورة كاملة تتلى في الصلوات فرضها ونفلها، في السر والعلن، يثاب المرء على تلاوتها على كل حرف عشر حسنات، أي: من يقرأ سيرة أبي لهب التي في هذه السورة له في كل حرف عشر حسنات، لكن لو قرأت سيرة أبي بكر من سيرة ابن إسحاق أو سيرة البداية والنهاية وغيرها لم يحصل لك هذا الأجر، فالإنسان كأنه يدعى دعوة أكيدة إلى قراءة سيرة أبي لهب، كل حرف تقرأه من سورة المسد لك به عشر حسنات.
تفسير قوله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب:
يقول الله -عز وجل-: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1] وهذا رد على قوله، أي: قول أبي لهب حينما جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليدعوهم إلى الله، فبشر وأنذر، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! هذه الإشارة للتحقير، أي: هذا أمر حقير لا يحتاج أن يجمع له زعماء قريش، وهذا كقولهم: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء:36] أي: يعيبها ويسبها -يعنون الرسول- قريش تقول: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء:36] والمعنى: للتحقير ليس فيه شيء ولا يهتم بهم، كما قالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف:31].
فالحاصل: أن أبا لهب قال: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فرد الله عليه بهذه السورة ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1] والتباب الخسار كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ [غافر:37] أي: خسار، وبدأ بيديه قبل ذاته؛ لأن اليدين هما آلة العند والحركة والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك. وهذا اللقب أبو لهب لقب مناسب تماماً في حاله ومآله.
وجه المناسبة: أن هذا الرجل سوف يكون في نار تلظى -والعياذ بالله- لهباً عظيماً، فكنيته مطابقة لحاله ومآله، ويقول الشاعر:
وقل أن أبصرت عينك ذا لقب *** إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
ولما أقبل سهيل بن عمرو في قصة غزوة الحديبية قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «هذا سهيل بن عمرو وما أراه إلا سهل لكم من أمركم» لأن الاسم مطابق للفعل.
يقول الله -عز وجل-: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد:2] (ما) يحتمل أن تكون استفهامية، والمعنى: أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟! الجواب: لا شيء، ويحتمل أن تكون ما نافية، أي:لم يغنِ عنه ماله وما كسب شيئاً، وكلا المعنيين متلازمان, ومعناهما: أن ماله وما كسب لم يغن عنه شيئاً.
ومع أن العادة أن المال ينفع، المال يأتي به الإنسان نفسه، لو تسلط عليه عدو وقال: أنا أعطيك كذا وكذا من المال وأطلقني، سيطلقه، لكن قد يطلب مالاً كثيراً أو قليلاً، لو مرض انتفع بماله، لو جاع انتفع بماله، فالمال ينفع، لكن النفع الذي لا ينجي صاحبه من النار ليس بنفع.
تفسير قوله تعالى: ما أغنى عنه ماله وما كسب:
قال تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ﴾ [المسد:2] أي: من الله شيئاً، وقوله: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد:2] قيل: المعنى وما كسب من الولد، كأنه قال: ما أغنى عنه ماله وولده، كقول نوح: ﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً﴾ [نوح:21] فجعلوا قوله: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ [المسد:2] يعني بذلك الولد، وأيدوا هذا القول بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».
والصواب: أن الآية أعم من هذا، وأن الآية تشمل الأولاد، وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الآن، وتشمل ما كسبه من شرف وجاه، كل ما كسبه مما يزيده شرفاً وعزاً فإنه لا يغني عنه شيئاً.
تفسير قوله تعالى: سيصلى ناراً ذات لهب:
قال تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد:3] والسين في قوله: (سيصلى) للتتفيس المفيد للحقيقة والقرب، أي: أن الله تعالى وعده أو توعده بأنه سيصلى ناراً ذات لهب.
فالسين: للتحقيق والتقريب، أي: أنه سوف يصلى عن قريب ناراً ذات لهب؛ لأن البقاء في الدنيا مهما طال فإن الآخرة قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مضت عليهم ملايين السنين فكأنها ساعة، قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف:35] وشيء يقدر بساعة من النهار، أظن أننا نتفق على أنه قريب ولا شيء، فكونه يصلى النار ذات لهب أمر محقق وقريب.
تفسير قوله تعالى: وامرأته حمالة الحطب:
قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد:4] أي: وكذلك امرأته معه -والعياذ بالله- وهي امرأة من أشراف قريش، لكن لم يغنِ شرفها شيئاً؛ لكونها شاركت زوجها في العدوان والإثم والبقاء على الكفر، وقوله: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد:4] قرئت بالنصب وبالرفع.
أما النصب فإنها تكون حالاً من امرأة، أي: وامرأته حال كونها حمالة الحطب، أو تكون منصوبة على الذم؛ لأن النعت المقطوع يجوز نصبه على الذم، أي: أذموا حمالة الحطب، وأما على قراءة الرفع فهي صفة لامرأة.
﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد:4] ما الحطب الذي تحمله وتحمله بكثرة؟ (حمالة) صيغة مبالغة، ذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله- من أجل أذى الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
تفسير قوله تعالى: في جيدها حبل من مسد:
قال تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:5] الجيد: العنق، والحبل معروف، والمسد الليف، يعني: أنها متقلدة حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي -صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من ذلك- وهو إشارة إلى دنو منزلتها وأنها أهانت نفسها.
امرأة من أكابر قبائل قريش تخرج إلى الصحراء وتضع هذا الحبل في عنقها وهو من الليف، معناه: فيه من المهانة لكن من أجل أذية الرسول -عليه الصلاة والسلام-، نسأل الله العافية، وبهذا انتهى الكلام على ما يسره الله -عز وجل- على هاتين السورتين.