فضل العشر الأول من ذي الحجة
مدة الملف
حجم الملف :
22499 KB
عدد الزيارات 15876

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وخليل رب العالمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فقد سمعتم كلام أخينا الشيخ حمود بن عبد العزيز الصايغ بأن هذه المحاضرة عوض عن اللقاء الشهري الذي تقرر ولله الحمد في هذا العام، وكل من المحاضرة واللقاء ذو فائدة عظيمة؛ لأنه يحضره من شاء الله من عباد الله، يأتون إلى هذا المكان يلتمسون العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة».

والطرق التي يلتمس بها العلم طرق للمشاة على الأرجل، وطرق للمشاة بالقلوب:

أما الأول فظاهر أن يمشي الإنسان في الأسواق إلى مكان العلم في المساجد، أو في المدارس، أو في غيرها،

وأما الثاني بأن يمشي الإنسان في طريق العلم بقراءة الكتب النافعة التي ألفها من يوثق بعلمهم ودينهم، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، و ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من المحققين من أهل العلم، كل تلك طرق يلتمس فيها العلم، وهذه بشرى سارة أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.

ونحن أيها الإخوة: في هذه الأيام، والليلة هي الخامسة والعشرون من شهر ذي القعدة عام ثلاثة عشر وأربعمائة وألف نستقبل موسماً عظيماً ألا وهو العشر الأول من ذي الحجة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر». يعني: أن العمل الصالح في العشر الأول من ذي الحجة أحب إلى الله من العمل الصالح في عشر رمضان الأخيرة؛ لأن الحديث عام (ما من أيام) وأيام نكرة في سياق النفي، مؤكدة بـ(من) ، فتفيد العموم القطعي أنه لا يوجد أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر.

والقائل بهذا القول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلم الخلق بشريعة الله وأعلم الخلق بالله وبما يحب الله، فلا تستغرب إذا سمعت من يقول: إن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أفضل من العمل الصالح في عشر رمضان؛ لأن هذا له دليل من كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد منا أن نفهم أن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من غيرها، وإنما يريد أن نفهم ونعمل، نكثر العمل الصالح في أيام العشر الأول من ذي الحجة.

والعمل الصالح متنوع: قرآن، ذكر، تسبيح، تحميد، تكبير، أمر بالمعروف، نهي عن منكر، صلاة، صدقات، بر بالوالدين، صلة للأرحام، والأعمال الصالحة لا تحصى، إذا تصدقت بدرهم في هذه العشر، وتصدقت بدرهم في عشر رمضان فأيهما أحب إلى الله؟ الصدقة في عشر ذي الحجة أحب إلى الله من الصدقة في عشر رمضان «قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟» والجهاد ذروة سنام الإسلام، قال: «(ولا الجهاد في سبيل الله» إلا في صورة واحدة: «إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء». خرج بنفسه وماله الذي يجاهد عليه، كالفرس والرحل فقتل فلم يرجع بنفسه، وعقر جواده فلم يرجع بجواده، وأخذ ماله فلم يرجع بماله، هذا هو الذي يكون أفضل من العمل في العشر الأول من شهر ذي الحجة، وما عدا ذلك فالعمل الصالح فيها أحب الله من أي وقت كان.

ما يشرع من العمل في عشر ذي الحجة:

فلنستعرض ما الذي يُشرع في هذه الأيام بخصوصه، فنقول: يشرع فيها ذكر، الله لقول الله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج:28] والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، فيكثر فيها من الذكر ومن ذلك:

التكبير، والتهليل، والتحميد، تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، تُكثر من هذا، تقوله في المساجد جهراً، وفي الأسواق والبيوت، وربما يكون ذكرك هذا في البيوت حرزاً لبيتك من الجن والشياطين؛ لأن الله وصف الشياطين والجن بأنهم (خناس) يخنسون عند ذكر الله ويختفون ويبعدون. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، تذكر ذلك في كل وقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه. ومن ذلك: صيام هذه الأيام العشر ما عدا يوم العيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها كما روى ذلك الإمام أحمد وأصحاب السنن عن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيامها» وهذا هو القول الراجح.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها الذي في مسلم : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصوم العشر» فإن العلماء قالوا: إذا تعارض عدلان ثقتان أحدهما مثبت والثاني نافٍ، يقدم المثبت؛ لأن معه زيادة علم، وقد يكون نفي عائشة رضي الله عنها نفي علم لا نفي واقع، وبهذا يجمع بين الحديثين، ثم على فرض أن حديث حفصة غير محفوظ فإن الصيام من أفضل الأعمال فيدخل في قوله: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب الله من هذه الأيام العشر».

ومما يسن في هذه الأيام الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء العمرة والحج، وهذا أفضل ما يعمل في هذه الأيام بخصوصه، بمعنى أن الأعمال الخاصة في هذه الأيام أفضلها السير إلى بيت الله لأداء العمرة والحج، فإن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم: «هل على النساء جهاد؟ قال صلى الله عليه وسلم: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة». ويشير إلى هذا قول الله عز وجل: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۞ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة:195-196]. فعطف إتمام الحج والعمرة على الإنفاق في سبيل الله، وهو يشعر بأن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، وعلى هذا فإنه يجدر بنا أن نتكلم ولو يسيراً على الحج والعمرة.

ومما يفعل في هذه الأيام العشر، في آخر يوم منها: التقرب إلى الله بالأضاحي، وهذا يكون لمن لم يحج من المسلمين في بلادهم، أما الحجاج فالمشروع في حقهم الهدي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أهدى في حجه ولم يضح، وضحى في المدينة في غير سنة حجه.

الحج وشروطه:

بالنسبة للحج: الحج أحد أركان الإسلام التي بني عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام». وقد أجمع المسلمون على فرضيته، ولم يختلف اثنان من المسلمين في أن الحج فريضة، وهو من المعلوم بالضرورة من الدين، كل المسلمين يعلمون أن الحج فريضة ولكنه لا يجب إلا بشروط:

الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر، فالكافر لا يجب عليه الحج ولا يؤمر به، يقال للكافر: أسلم أولاً ثم صل، ثم زك، ثم نأمره ببقية شرائع الإسلام، ولو حج الكافر لم يصح حجه.

وبناءً على ذلك نذكر مسألة قد تكون مشكلة وهي: حج من لا يصلي:

السؤال: هل يصح حجه ويقبل منه الحج أو لا؟

الجواب:

لا يقبل؛ لأنه غير مسلم ولا يجوز أن يمكن من لا يصلي من دخول حدود الحرم؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة:28]. ومن كان معه من لا يصلي -أي: في رفقته- فإنه يجب عليه أن يقول له: أسلم وإلا منعناك من دخول حدود الحرم.

الشرط الثاني: البلوغ، وضده الصغر، فالصغير لا يجب عليه الحج ولكن يصح منه ولا يجزئه، والدليل على أنه يصح منه أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبياً وقالت: «يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر». ولكن نسأل الآن: هل الأولى لمن كان معه أولاد أن يجعلهم يحجون أو لا؟ نقول: في عصرنا نرى ألا يجعلهم يحجون لمشقة الزحام عليهم وعلى أولياء أمورهم، وما دام الله عز وجل لم يفرض الحج عليهم فلنستمتع بهذه الراحة.

ثم إن كثيراً من العلماء يقول: إن الإنسان إذا طاف بولده فإنه لا يجزئه الطواف، بل لا بد أن يطوف لنفسه أولاً، ثم يطوف بولده ثانياً، وهذا لا شك أن فيه مشقة شديدة وكبيرة، لهذا نشير على إخواننا الذين معهم أولاد ذكور أو إناث دون البلوغ ألا يمكنوهم من الحج راحة لهم وراحة لأهليهم، والله عز وجل يحب لعباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.

الشرط الثالث: العقل، وضده الجنون، فلو أن إنساناً من قبل أن يبلغ كان مجنوناً مخبولاً ليس عنده عقل، فإنه لا يجب عليه الحج؛ لأن القلم مرفوع عنه، حتى ولو كان من أبناء الأغنياء فإنه لا حج عليه، ولا يلزمنا أن نُحجِّج عنه؛ لأن الحج ساقط عنه كما أن الصلاة والصيام ساقطة عنه، ولا يجب على المجنون من الأركان الخمسة إلا ركن واحد هو الزكاة.

الشرط الرابع: الحرية، وضدها الرق، فالرقيق لا يجب عليه الحج، ويصح منه ولا يجزئه ويشبهه في ذلك الصغير، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم.

الشرط الخامس: الاستطاعة؛لقوله تعالى: ﴿مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97] فالفقير لا يجب عليه الحج إلا إذا كان قريباً من مكة يمكنه المشي على قدميه فإنه يجب عليه، أما إذا كان لا يمكنه المشي على قدميه، وليس عنده مال يشتري به راحلة توصله إلى مكة فإنه لا حج عليه، أي لا يجب عليه، لكن لو فرض أنه تجشم المشاق وذهب مع الناس وحج أيجزئه أم لا؟ يجزئه، إذاً من لا يستطيع بماله لو أنه حج وتكلف المشاق فإنه يصح منه الحج ويجزئه.

ومن الاستطاعة ألا يكون على الإنسان دين، فإن كان على الإنسان دين فإن الحج لا يجب عليه؛ لأنه غير مستطيع، والدين حق آدمي مبني على المشاحة، فالآدمي لا يسامح في حقه، إن أديته حقه في الدنيا وإلا أخذه منك يوم القيامة من أعمالك الصالحة، لكن حق الله مبني على العفو.

ولهذا لا يجب الحج على من عليه دين إلا في حال واحدة: إذا كان الدين مؤجلاً أي: مقسطاً، وكان المدين واثقاً من وفائه كلما حل قسط وجد الوفاء عنده، وبيده مال عند الحج فهذا يجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع، أما إذا كان لا يثق من وفاء الدين، فإنه لا يجب عليه الحج حتى لو كان الدين كثيراً.

بعض الناس إذا صار الدين كثيراً قال: الدين كثير ولو وفرت نفقة الحج ما قضت من الدين شيئاً، نقول: هذه نظرية خاطئة، قدر أن الدين عشرة ملايين وأنك وفرت من نفقة الحج ألفين ريال، إذا أوفيتها كم يبقى عليك من الدين؟ عشرة ملايين إلا ألفين. إذن: سقط عنك الألفان وأنت متق لله ما استطعت، فمن العجب أن بعض الناس لشدة شوقه إلى المسجد الحرام تقول له: يا أخي، الحج ليس واجباً عليك؛ لأنك مدين وليس عندك قدرة على الوفاء، اقض دينك وحج، وأنت لو وافيت الله عز وجل ولم تحج فلا ذنب عليك، كما أن الفقير لا زكاة عليه ولو وافى الله عز وجل لا يعاقبه على عدم الزكاة، لأنه ليس له مال.

أيضاً هذا المدين الذي يريد أن يحج، نقول له: لو وافيت الله فإنه ليس عليك ذنب؛ لأن من شروط الحج أن يكون لديك مال فاضل عن الدين الذي عليك.

فإذا تمت الشروط؛ وجب على الإنسان أن يبادر بالحج ولا يؤخر، لقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة:48]، ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران:133]. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من أراد الحج فليتعجل؛ فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له». فإذا تمت شروط الوجوب فإنه لا يجوز للإنسان أن يتأخر بل يحج.

كيفية أداء الحج:

أما كيف نؤدي الحج؟ وهو أمر مهم؛ لأن العبادات لا تصح إلا بأمرين: الإخلاص لله والموافقة لشريعة الله عز وجل.

إذاً: لا بد لكل من أراد الحج أن يعرف كيف يحج من أفواه العلماء، ومن الكتب المؤلفة في ذلك ممن يوثق بعلمه ودينه، وما أكثر الكتب -ولله الحمد- المؤلفة في المناسك، من مختصر جداً ومتوسط ومطول، ولكننا نوجز هذا الآن في الكلمات التالية:

صفة العمرة:

إذا وصلت إلى الميقات فاغتسل كما تغتسل للجنابة، ثم تطيب، ثم البس الإزار والرداء وهما ثياب الإحرام، هذا بالنسبة للرجل، أما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب إلا أنها لا تلبس ثياب زينة تكون متبرجة بذلك، ثم صل ركعتين سنة الوضوء، أو إذا كانت الفريضة وقتها حاضر فصل الفريضة، ثم بعد ذلك اركب سيارتك وقل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك عمرة، فتلبي بالعمرة، وتستمر في التلبية وتكثر منها وترفع صوتك بها إذا كنت رجلاً، أما المرأة فتسر بها، واعلم أنه لا يسمع صوتك شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد لك يوم القيامة.

فإذا وصلت إلى مكة فبادر بأداء العمرة، اذهب إلى المسجد الحرام، وتدخل المسجد فتقدم رجلك اليمنى وتقول: باسم الله والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، كسائر المساجد، ثم تتقدم إلى الكعبة، وتبدأ بالطواف فتحاذي الحجر الأسود، تتجه إليه وتستقبله، فإن قدرت على أن تصل إليه بسهولة بدون مشقة عليك ولا على الناس فافعل وقبله وامسحه باليد، وإن لم تقدر فالإشارة كافية.

وفي هذا الطواف يسن للرجل شيئان:

الشيء الأول: الاضطباع وهو أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر في جميع الطواف، ولا يضطبع قبل الطواف، ولا يضطبع إذا فرغ من الطواف.

الشيء الثاني: يسن الرمل، ولكن الرمل إنما يسن في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وأما الأربعة الباقية فيمشي فيها كما يمشي على عادته.

ماذا يقول عند استلام الحجر؟ يقول عند أول مرة: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إذا دار وحاذى الحجر يقول: الله أكبر. فقط.

وماذا يقول عند استلام الركن اليماني؟ لا يقول شيئاً لا تكبيرة ولا تسمية؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وماذا يفعل في الركن اليماني؟ يستمله بيده فقط، يعني: يمسح عليه بيده اليمنى فقط، ولا تقبيل فيه، ولا تشر إليه لو لم تتمكن من الاستلام، وبين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201] فإن كان المطاف زحاماً وانتهيت من هذا الدعاء قبل أن تحاذي الحجر الأسود فكرره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً، كرر ثلاثاً، أربعاً، خمساً، حتى تصل إلى الحجر الأسود.

وماذا تقول في بقية الطواف؟ تقول ما شئت من ذكر ودعاء وقراءة قرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله». وأما الكتيب الذي بأيدي كثير من الحجاج والعمار الذي فيه لكل شوط دعاء؛ فإنه بدعة، وكل بدعة ضلالة، فما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخصص كل شوط بدعاء.

فإذا أتممت سبعة أشواط فتقدم إلى مقام إبراهيم واقرأ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة:125] وصل ركعتين خلف المقام تقرأ في الأولى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون:1] وفي الثانية: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1] ثم تنصرف ولا تمكث في هذا المكان لا لدعاء ولا لغيره؛ لأن غيرك من الطائفين أحق منك، إذا أديت السنة فلا تحجزه على غيرك.

ثم إذا فرغت من الركعتين فاذهب إلى الركن، أي: إلى الحجر الأسود واستلمه، أي: امسحه بيدك اليمنى بدون تقبيل وبدون تكبير، فإن لم يتيسر فلا تذهب ولا بإشارة، اخرج إلى الصفا، فإذا دنوت من الصفا، فاقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] واقرن ذلك بقولك: أبدأ بما بدأ الله به، واصعد الصفا، حتى ترى الكعبة، ثم استقبلها رافعاً يديك رفع الدعاء هكذا، تكبر ثلاثاً، وتقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم تدعو بما شئت، ثم تعيد الذكر مرة ثانية، ثم تدعو، ثم تعيده مرة ثالثة، ثم تنزل متجهاً إلى المروة، وحينئذ تجد بين يديك عمودين أخضرين، فالسنة للرجل فيما بين هذين العمودين أن يسعى سعياً شديداً -أي: يركض ركضاً شديداً- إذا كان المسعى واسعاً، أما إذا كان ضيقاً فلا تتعب نفسك ولا تتعب غيرك، وامش كما يمشي الناس، فإذا وصلت إلى العلم الآخر فامش ولو كان في المسعى سعة، امش مشياً عادياً إلى أن تصل إلى المروة فتصعد عليها، وتستقبل القبلة وترفع يديك وتقول ما قلته على الصفا.

هل يكرر الساعي قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] كلما أتى على الصفا أو كلما أتى على المروة؟

لا، ولا تغتر بفعل العامة، هذه الآية لا تتلى إلا إذا دنوت من الصفا أول مرة فقط، وماذا يقول الساعي في بقية سعيه؟ يقول ما شاء، إلا أنه يروى عن ابن مسعود أنه كان يقول بين العلمين وهو يركض: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم). فإن قلتها فحسن، وإن قلت غيرها فحسن، ليس فيه توقيت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

فإذا أتممت سبعاً وهنا أسأل: أين يكون الختام على الصفا أم على المروة؟ يكون على المروة، لكن إن قالت لك نفسك عند الصفا: إنك قد أتممت فهذا خطأ؛ لأنك إما أن تكون زدت شوطاً أو نقصت، لا يمكن أن يكون آخر السعي إلا على المروة، فإذا أتممت السعي سبعاً فقصر من شعر رأسك، وليكن التقصير تقصيراً مجزئاً عاماً لكل الرأس، فلا يجزئ أن يقص شعرات من رأسه ولو من كل جانب، بل لا بد أن يشمل الرأس بحيث يظهر على الرأس أنه مقصر، وبذلك تحل الحل كله، وتعود كما كنت قبل الإحرام، تلبس ما شئت مما أباح الله، وتتطيب، وإذا كان أهلك معك فهم حلال، وتبقى محلاً إلى يوم الثامن من ذي الحجة.

صفة الحج:

ماذا نفعل في اليوم الثامن؟ نغتسل في المكان الذي نحن فيه، ونتطيب، ونلبس ثياب الإحرام، ونقول: لبيك حجاً، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ونبقى في منى نصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع، فإذا طلعت الشمس فقد انتهى عمل اليوم الثامن.

ماذا نعمل في اليوم التاسع؟ إذا طلعت الشمس فإن الحاج يسير إلى عرفة، فإن تيسر له أن ينزل في نمرة وهي مكان معروف فليفعل، وإن لم يتيسر فليستمر حتى يصل إلى عرفة وينزل في أي مكان كان من عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في عرفة وقال: «وقفت هاهنا و عرفة كلها موقف». فيقف في أي مكان لكن لا بد أن يتأكد أنه داخل حدود عرفة، وقد وضعت الدولة -وفقها الله- علامات واضحة بارزة تحدد عرفة، ولا تغتر بمن ينزل قبل الحدود ولو كثروا، بل سر حتى تتيقن أنك دخلت في حدود عرفة، وتبقى في عرفة فإذا زالت الشمس فأذن وصل الظهر ركعتين والعصر ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بطن عرفة الظهر ركعتين والعصر ركعتين وجمع بينهما جمع تقديم، فاتبع نبيك، ثم بعد هذا تتفرغ للذكر والدعاء وقراءة القرآن، ولو أن تكرر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لو تكررها من صلاة العصر المجموعة مع الظهر إلى غروب الشمس لكان هذا خيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

مع أن أكثر المسلمين عندهم أذكار أخرى، عندهم القرآن، عندهم دعاء، يدعون الله بما شاءوا من خير الدنيا والآخرة، هذا مكان دعاء وزمان دعاء، ادع الله بما شئت ولا سيما في آخر اليوم.

إذاً: ماذا فعلنا في اليوم التاسع؟ صلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً، التفرغ للدعاء والذكر، فإذا لحقك ملل؛ لأن الإنسان قد يمل من الظهر إلى المغرب، إذا لحقك ملل فلا بأس أن تعطي نفسك حظها من الراحة إما بنوم، أو بمطالعة كتاب، أو ببحث مع إخوانك فيما ينفع بدون جدال، وينبغي إذا أراد الإنسان أن يقرأ كتاباً في هذا اليوم أن يحرص على الكتب التي ترقق القلوب وتستدعي الخشوع؛ لأن المقام يقتضي ذلك.

وبعد غروب الشمس فقد انتهى العمل في عرفة، فيسير الحاج منها إلى مزدلفة، ويصلي بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً -والتي تقصر هي العشاء، أما المغرب فلا تقصر- وينام في مزدلفة إلى أن يطلع الفجر، ثم إذا طلع الفجر صلى الفجر بعد الأذان، وسنة الفجر يصليها ولا يتركها، يصلي الفجر ويبقى يذكر الله عز وجل إما في مكانه، أو إن تيسر له أن يذهب إلى المشعر الحرام الذي فيه المسجد اليوم فليفعل، وإن لم يتيسر ففي مكانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وقفت هاهنا وجمع -يعني مزدلفة - كلها موقف». حتى يسفر فإذا أسفر جداً دفع قبل أن تطلع الشمس، إذاً: ماذا نفعل في هذه الليلة؟ نتوجه من عرفة إلى مزدلفة ونصلي فيها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ونبيت إلى أن يطلع الفجر ثم نصلي الفجر بعد الأذان وركعتي الفجر، ثم بعد ذلك نبقى في مزدلفة إلى الإسفار جداً نذكر الله عز وجل ونستغفره.

ثم ندفع إلى منى. وهنا نسأل: هل يجوز أن ندفع من مزدلفة قبل الفجر؟ نقول: نعم، يجوز لكن في آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ترقب القمر فإذا غاب مشت إلى منى، فيجوز أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل، يعني: حول الساعة الثانية من الليل أو قريباً من ذلك، ولكن الأفضل أن تبقى في مزدلفة حتى تصلي الفجر وتذكر الله عز وجل، ثم تنصرف، إلا إذا كان معك نساء، أو صغار، أو ضعفاء يشق عليهم مزاحمة الناس، فانصرف أنت وإياهم قبل الفجر؛ لأجل أن تصلوا إلى منى قبل الفجر فترموا جمرة العقبة قبل أن يحصل الزحام من القادمين من مزدلفة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء ولا سيما الضعيفات أن ينصرفن من مزدلفة في آخر الليل.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يبعث بأهله من مزدلفة في آخر الليل حتى يوافوا منى في صلاة الفجر، أما هو فيبقى في مزدلفة فيرموا الجمرة هناك قبل الفجر، أو مع الفجر، وهذا هو فائدة الترخيص، أن يرخص للناس الضعفة في الدفع في آخر الليل.

وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في أغيلمة بني عبد المطلب وقال أُبَيْنيَّ لا ترموا حتى تطلع الشمس»

فهذا حديث اختلفت العلماء في صحته، فمنهم من ضعفه وقال: لا حجة فيه، ومنهم من صححه، وعلى القول بالتصحيح يكون هذا النهي من باب التنزيه والأولى، لا من باب التحريم، إذ أننا لا نعلم أن للتقدم من مزدلفة فائدة إلا أن يرمي الإنسان قبل حطمة الناس، ثم إن رمي جمرة العقبة يكون من أول ما يأتي الإنسان إلى منى؛ ولهذا قال بعض العلماء: رمي جمرة العقبة تحية منى، كما أن الركعتين تحية المسجد، ويدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم العيد على بعيره قبل أن يذهب إلى رحله، أي: ما نزل في رحله، بل مشى (على طول) سلك الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة، ثم رماها وهو على بعيره، مما يدل على أن الأفضل لمن وصل إلى منى سواء كان بعد طلوع الشمس أو في آخر الليل أن يبادر بالرمي وهو كذلك.

ولننظر ماذا نفعل يوم العيد وهو أكثر الأيام أنساكاً؛ ولهذا يسمى يوم الحج الأكبر.

إذا وصل الحاج إلى منى فماذا يبدأ به؟ يبدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر، الله أكبر. حتى يتم سبع حصيات، ولا يشترط أن تصيب الحصاة الشاخص -العمود القائم- لأن هذا العمود إنما جعل علامة على المكان، الشرط الذي لا بد منه أن تقع الحصاة في الحوض في المرمى، أما أن تضرب العمود القائم فليس بشرط، بعد رمي جمرة العقبة نذبح الهدي، وبعد ذبح الهدي نحلق ثم نتحلل ونتطيب وننزل إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي، والطواف هنا طواف الحج؛ لأن طواف العمرة سبق والسعي سعي الحج؛ لأن سعي العمرة قد سبق، ثم نرجع إلى منى ونبقى فيها.

وحينئذ نجد أن الحاج يفعل يوم العيد خمسة أنساك: الأول: رمي جمرة العقبة. الثاني: النحر. الثالث: الحلق والتقصير. الرابع: الطواف. الخامس: السعي.

والأفضل أن ترتبها هكذا، فإن قدمت بعضها على بعض فلا حرج عليك؛ فالأمر واسع، حتى لو قدمت السعي على الطواف فإن ذلك جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل في الرمي والتقديم والتأخير فما سئل عن شيء يومئذ قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج). وهذا من توسيع الله عز وجل على العباد أن جعل كل واحد يفعل ما يتيسر له، حتى لا يجتمع الناس على شيء واحد فيتضايقوا، ولهذا تجد الناس يوم العيد متفرقين، هذا يرمي، وهذا ينحر، وهذا يطوف، وهذا يسعى حتى يتسع المجال للأعمال.

إذاً نرجع إلى يوم العيد، ماذا يصنع الحاج يوم العيد؟ يدفع من مزدلفة إلى منى، فيرمي جمرة العقبة، ثم النحر، ثم الحلق والتقصير، ثم الطواف والسعي، والأفضل أن تكون مرتبة هكذا وإن قدم بعضها على بعض فلا حرج.

مسائل في الحج:

وهنا مسائل للأعمال التي تفعل في يوم العيد:

أولاً: هل يجب أن نلقط الحصى من مزدلفة أو السنة أن نلقطه من منى؟

السنة أن يُلقط من منى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس أن يلقط له الحصى وهو على بعيره، وهذا يدل على أنه لقطه من منى، والظاهر أنه لقطه له وهو واقف على الجمرة؛ لأجل أن يرمي به.

ثانياً: لو سقطت الحصاة من يدك وأنت ترمي.

السؤال: فهل يجوز أن تأخذ من الحصى الذي تحت قدمك وترمي به؟

الجواب: نعم، يجوز ولو كانت الحصاة قريبة من الحوض.

ثالثاً: لو أنه رمى خمساً وسقطت حصاتان من يده، ومع الزحام خرج وأخذ حصاتين ورمى بهما بعد أن أبعد عن الزحام.

السؤال: هل يجوز هذا أو لا؟

الجواب: يجوز؛ لأن الموالاة في الرمي ليست بشرط عند كثير من العلماء، وإذا قلنا: إنها شرط فإن فواتها في مثل هذه الصورة ضرورة، فلا بأس.

رابعاً: هل يجوز أن يؤخر الرمي إلى ما بعد الظهر؟

نعم يجوز، وإلى ما بعد الغروب فيجوز لكنه سيتوقف على ذلك التحلل؛ لأنه إذا لم يرم فإنه لا يتحلل؛ لكن بعض الفقهاء يقول: إنك إذا فعلت اثنين من ثلاثة حللت التحلل الأول، والثلاثة هي الرمي والحلق والطواف، يقول: إذا فعلت اثنين من هذه الثلاثة حللت التحلل الأول، وإذا أضفت إلى ذلك السعي حللت التحلل كله.

خامساً: هل يتوقف الحل على ذبح الهدي أو لا يتوقف؟ بمعنى لو رمى الإنسان وحلق قبل أن ينحر هل يحل أو نقول لا تحل حتى تنحر؟

يحل ولا علاقة للذبح بالتحلل، بمعنى أنك تحل وإن لم تذبح الهدي، وبهذا يزول الإشكال الذي يشكل على بعض الحجاج الذين يعطون دراهمهم شركة الراجحي أو غيرها للهدي، فيقول مثلاً: هل أحل وأنا لا أدري هل ذبحوا الهدي أم لا؟ نقول: ليس لك شأن في هذا؛ سواء ذبحوها أم لم يذبحوها؛ لأن النحر لا علاقة له بالتحلل.

سادساً:

السؤال:

هل يجوز أن يؤخر الطواف والسعي إلى الليل؟

الجواب:

نعم، يجوز إلى الغد وإلى ما بعد الغد وإلى آخر يوم من الشهر، ولا يجوز أن يؤخر عن شهر ذي الحجة؛ لأن الله قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة:197] فلا يجوز أن تؤخر الطواف عن آخر شهر ذي الحجة، ومع ذلك ما دمت لم تطف، فإنه باق عليك التحلل الثاني، فلا يحل لك النساء حتى تكمل ما يكون به التحلل الثاني.

سابعاً:

السؤال:

لو أن الإنسان طاف اليوم وأخر السعي إلى اليوم الثاني هل يجوز ذلك؟

الجواب:

نعم يجوز؛ لأنه لا تشترط الموالاة بين الطواف والسعي، لكن الأفضل الموالاة، أما الوجوب فليس بواجب، ولهذا يجوز أن تطوف في أول النهار وتسعى في آخره، أو أن تطوف في النهار وتسعى في الليل أو بالعكس؛ لأن الأمر في هذا واسع والموالاة ليست بشرط.

ثم في اليوم الثاني من أيام منى -وهو اليوم الحادي عشر- يذهب الحجاج إلى رمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس؛ أي: بعد دخول وقت الظهر، فيرمون الجمرة الأولى -وهي التي تلي مسجد الخيف وهي أبعد الجمرات الثلاث عن مكة- بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيقف مستقبلاً القبلة رافعاً يديه يدعو الله سبحانه وتعالى دعاء طويلاً، ثم يرمي الوسطى كذلك ويقف بعدها مستقبلاً القبلة رافعاً يديه، فيدعو الله سبحانه وتعالى دعاءً طويلاً ثم يرمي جمرة العقبة كذلك، أي: بسبع حصيات ولا يقف عندها، هكذا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن شق عليه الوقوف طويلاً فليقف ولو يسيراً من أجل إحياء السنة.

وفي اليوم الثاني عشر كذلك يرمي الجمرات الثلاث بعد الزوال كما ذكرنا، ثم إن شاء بقي إلى اليوم الثالث عشر وإن شاء خرج، فإن خرج فهو المتعجل، وإن بقي فهو أفضل؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]. وهنا نسأل قوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ هل يدخل فيهما يوم العيد أو لا يدخل؟ لا يدخل؛ لأنه لو دخل فيهما يوم العيد لكان يجوز أن يتعجل في اليوم الحادي عشر، وليس كذلك، وقد فهم بعض العامة أن قوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ منهما يوم العيد وليس كذلك؛ لأن الله قال: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:203] والأيام المعدودات هي أيام التشريق، وأيام التشريق لا تكون إلا بعد العيد، ثلاثة أيام بعده، سميت أيام التشريق؛ لأن الناس يشرقون فيهن اللحم، أي: ينشرونه في الشمس حتى ييبس ولا يتعفن.

وبهذا انتهى الحج فإذا أراد أن يرجع إلى بلده فإنه لا يرجع حتى يطوف للوداع.

قال أهل العلم: وإن أخر طواف الإفاضة -طواف الحج- فطافه عند الخروج ونوى طواف الإفاضة أجزأ عن الوداع، وإن نواهما جميعاً أجزأ عنهما، وإن نوى الوداع وحده لم يجزئ عن طواف الإفاضة.

وهذه مسألة يجب أن ننتبه لها؛ الذي يؤخر طواف الإفاضة حتى يطوفه عند خروجه له ثلاث حالات:

الأولى: إما أن ينوي به طواف الوداع، فهنا لا يجزئه عن طواف الإفاضة ويبقى عليه طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج.

الثانية: أو ينوي به طواف الإفاضة فقط فهذا يجزؤه عن طواف الوداع.

الثالثة: أو ينويهما جميعاً فيجزئ عنهما جميعاً.

وبهذا انتهت أعمال الحج.

العبادات التي يشارك فيها الناس الحجاج:

ونعرج يسيراً إلى أهل البلاد الأخرى غير أهل مكة وهم أهل البلاد الذين لم يقدر لهم الحج.

السؤال:

فهل عوضهم الله عز وجل بعبادات أخرى ليشاركوا الحجاج في عباداتهم؟

الجواب:

نعم، أهل البلاد الأخرى يشاركون الحجاج في الذكر في هذه الأيام العشر، فبينما الحجاج تعج أصواتهم بالتلبية تعج أصوات أهل البلاد الأخرى بالتهليل والتكبير، وبينما الحجاج والعمار يعظمون الله عز وجل بترك أخذ الشعور، نجد أن أهل البلاد الذين يضحون ويتقربون إلى الله بترك أخذ الشعور والأظفار والجلود، فمن دخل عليه العشر وأراد أن يضحي، فإنه لا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من ظفره شيئاً حتى يضحي.

أهل الحج يذبحون يوم العيد هداياهم، وأهل البلاد يذبحون يوم العيد ضحاياهم، ولهذا كانت الضحايا التي تذبح يوم العيد من شعائر الله عز وجل التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، بالذبح لا بالصدقة باللحم، الصدقة باللحم لا شك أنها قربة؛ لكن أهم شيء هو الذبح تقرباً إلى الله عز وجل، ولهذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين شاة اللحم وشاة الأضحية فقال: «من ذبح قبل أن يصلي فشاته شاة لحم، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أصاب النسك وسنة المسلمين». ففرق بين اللحم وبين الأضحية.

ولهذا كان من الخطأ أن بعض الناس يعطي هيئة الإغاثة أو غيرها دراهم ليضحى بها عنه في بلاد أخرى.

نقول: الأضحية شعيرة تتعلق بالإنسان نفسه فاذبحها أنت بيدك إن استطعت، أو وكل من يذبحها واحضرها وكل منها؛ لأن الله أمر بالأكل منها، بل جعل الأكل قبل الإطعام، قال: فَكُلُوا مِنْهَا وماذا؟ وَأَطْعِمُوا [الحج:28]. ولهذا ذهب بعض العلماء إلى وجوب الأكل من الأضحية، ومن دفع دراهم ليضحى بها في بلاد أخرى هل يمكن أن يأكل منها؟ لا، إذن: نقول ضح في بلدك وكل، أما إخوانك المسلمون المحتاجون، فابعث إليهم بالدراهم، ابعث إليهم بالأطعمة، ابعث إليهم بالأكسية، فضل الله واسع، أما أن تترك شعيرة من شعائر الإسلام لتقام في بلاد بعيدة عنك فهذا خلاف ما تقتضيه السنة.

ولا يضحي الإنسان إلا بما تحقق فيه أربعة شروط:

الأول: أن يكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل، والبقر، والغنم.

الثاني: أن يبلغ بلغ السن المعتبر شرعاً؛ وهو نصف سنة في الضأن، وسنة في الماعز، وسنتان في البقر، وخمس سنين في الإبل، فما دون ذلك لا يضحى به.

الثالث: أن يكون سليماً من العيوب المانعة من الإجزاء، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى»؛ أي: الهزيلة ليس فيها مخ.

الرابع: أن يكون في الوقت المحدد وهو ما بعد صلاة العيد إلى ثلاثة أيام بعده، فلو ذبح الأضحية قبل الصلاة لم تجزئ، ولو ضحى بعد مضي أيام التشريق لم يجزئ، فلا بد أن تكون في الأيام المعتبرة شرعاً.

هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن حجه مبرور، وذنبه مغفور، وسعيه مشكور، وأن يتقبل منا جميعاً بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والآن مع الأسئلة التي عند الأخ الشيخ حمود بن عبد العزيز الصايغ.