تفسير بداية سورة الطارق
مدة الملف
حجم الملف :
2665 KB
عدد الزيارات 1889

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فهذا اللقاء الثاني لشهر جمادى الأولى عام (1414هـ)، الذي يقام أسبوعياً في كل خميس، نسأل الله -تعالى- أن ينفع به، وأن يجعل عملنا جميعاً خالصاً لوجهه الكريم.

نذكر الكلام على قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ۞وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ۞النَّجْمُ الثَّاقِبُ ۞إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق:1-4]. 


تفسير قوله -تعالى-:﴿والسماء والطارق﴾:

هذه آيات كريمة تتضمن القسم بالسماء وبالطارق.

أما السماء فهي معروفة، وأقسم الله -سبحانه وتعالى -بها لعظمتها وقوتها واتساعها وارتفاعها، ودلالتها على قدرة خالقها جل وعلا، وما له من العظمة والقوة والحكمة التي تبهر العقول، قال الله -تبارك وتعالى-:﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47]، وقال تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾[النبأ:12]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:32] والآيات في ذكر السماء وما تتضمنه من الدلالة على قدرة الله وقوته وعظمته وحكمته كثيرة في كتاب الله، ولهذا كانت جديرة بأن يقسم الله -تعالى- بها، أما القسم الثاني فهو الطارق، أقسم الله تعالى بالطارق وهو النجم، وسمي طارقاً لأنه لا يتبين إلا بالليل، والطارق في اللغة العربية هو القادم ليلاً، كما جاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أنه نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً)، فسمي النجم بذلك؛ لأنه لا يتبين ضوؤه إلا في الليل، وليس هذا الوصف خاصاً بالثريا ولكنه عامٌ لكل نجم، سواء كان نوره قوياً أو كان نوره خفياً، وأقسم الله -تعالى- بالنجوم لأنها زينة للسماء، ورجوم للشياطين التي تسترق السمع، وعلامات يهتدى بها كما قال -تعالى-:﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ﴾[الملك:5] وقال تعالى:﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ۞وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل:15-16]. فبالنجم يهتدي الخلق إلى الجهات الأربع؛ الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ويهتدون أيضاً إلى اتجاه القبلة، كما يعرف ذلك من يمارس هذا الاستدلال، وإن كان الناس في عصرنا هذا -نظراً لوجود الآلات التي تبين هذا بدون كلفة ولا مشقة- قد غفلوا عن هذه العلامات، ولكنها لا تزال موجودة يعرفها من تتبعها وشاهدها وسبر سيرها.

تفسير قوله -تعالى-: ﴿وما أدراك ما الطارق ۞ النجم الثاقب﴾

قال -تعالى-: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ [الطارق:2] هذا استفهام تفخيم. أي: أيُ شيء أعلمك بهذا الطارق الذي هو النجم؟ ثم بين عز وجل مراده بقوله: ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ [الطارق:3] أي: هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بضيائه، مأخوذٌ من ثقب المسمار للخشبة، فهو يشق الظلام حتى يصل بنوره إلى الأرض، وهذا لا يتبين في وقتنا الحاضر في المدن؛ لأن الأرض مملوءة بأنوار الكهرباء، ولكن لو خرجت إلى البر بعيداً عن مواضع الكهرباء لرأيت إضاءة النجوم على الأرض ظاهرة، ويتبين ظهورها فيما إذا أظلمت السماء بالغيوم، حيث تكون الأرض مظلمةً أشد، ولهذا سمى الله -سبحانه وتعالى- النجم بالثاقب؛ لأنه يثقب الظلام بضيائه، أي يخرقه حتى يصل إلى الأرض.

تفسير قوله -تعالى-: (إن كل نفس لما عليها حافظ): 

ثم بين الله المقسم عليه بقوله: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾[الطارق:4] (إن) هنا بمعنى (ما) وإذا جاءت (إلا) بعد (إن) فإن (إن) بمعنى (ما)، أي: ما كل نفس، (ولما) هنا بمعنى (إلا) أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، أو كل نفس عليها حافظ، كما قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد:11] وكل نفس عليها حافظ يكتب ما يفعله الإنسان؛ لقوله -تعالى-: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۞كِرَاماً كَاتِبِينَ ۞يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12]، وإنما أخبرنا الله -عز وجل- بذلك وأقسم عليه مؤكداً له من أجل أن نحذر، وأن نتجنب كل ما يكتب علينا من المعاصي؛ إما بتركه من الأصل، وإما بالتوبة منه إن وقع منا، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.

فالمؤمن إذا علم أن عليه حافظاً يكتب ما يقول ويفعل؛ فإنه لا شك يحذر ويخاف أن يكتب عليه ما يفعله من المعاصي والمخالفات، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18].