تفسير آخر آيات سورة الانشقاق
مدة الملف
حجم الملف :
6445 KB
عدد الزيارات 1513

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأول من شهر ربيع الأول عام (1414هـ)، وهو اللقاء الذي يكون في كل يوم خميس من كل أسبوع. في هذا اللقاء سنتكلم عن آخر سورة الانشقاق وهو قوله -تبارك وتعالى-:﴿ بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ۞وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ۞فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق:23-25].


تفسير قوله -تعالى-: ﴿بل الذين كفروا يكذبون﴾:

لما ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه إذا قُرئ عليهم القرآن لا يسجدون، بيَّن -سبحانه وتعالى- أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلابد أن يمتثل الأمر ويجتنب النهي؛ لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات؛ فاعلم أن إيمانه ضعيف، إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات، ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال هنا: ﴿بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ [الانشقاق:22] أي: أنَّ تركهم السجود كان بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل.

تفسير قوله -تعالى-: (والله أعلم بما يوعون): 

قال -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ [الانشقاق:23] أي: أنه -سبحانه وتعالى- أعلم بما يوعونه، أي: بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفتهم، بل ومحاربة الرسل وقتالهم، وأنتم تعلمون أن الكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وهم يجمعون لهم، ويكيدون لهم، فتوعدهم الله -تعالى- في هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ [الانشقاق:23] أي: بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله -تعالى-: (فبشرهم بعذاب أليم): 

ثم قال -تعالى-: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق:24] أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ ﴾[الانشقاق:24] عام للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يصح منه الخطاب، كل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، فنحن نبشر كل كافر بعذابٍ أليم ينتظره، كما قال -تعالى-: ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ [السجدة:30].

تفسير قوله -تعالى-: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات...): 

ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق:25] (إلا) هنا بمعنى (لكن) ولا تصح أن تكون استثناءً متصلاً؛ لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون وهذا هو استثناء منقطع وتقدر (إلا) بـ(لكن) أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون؛ الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، فهؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب، بل لهم أجر غير ممنون.

فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟

فالجواب: أن العمل الصالح ما جمع شيئين:

الأول: الإخلاص لله -تعالى- بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته وثوابه، وابتغاء النجاة من النار، -أي: لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا- ولهذا قال العلماء: إن الأعمال التي لا تقع إلا عبادة لا يصح أخذ الأجرة عليها كالأذان: -مثلاً- فلا يصح أن تؤذن بأجرة، والإمامة: فلا يصح أن تؤم بأجرة، وقراءة القرآن: فلا يصح أن تقرأ بأجرة، بخلاف تعليم القرآن فيصح بالأجرة؛ لأنه متعدٍّ وتكون الأجرة على العمل الذي هو التعليم لا على التلاوة، فلو أتى إنسان وقال: أريد أن أتلو القرآن بأجرة، فإن ذلك لا يصح ولا يحل؛ لأن من شرط العمل الصالح أن يكون مخلصاً لله -عز وجل- ومن قرأ بأجرة أو تعبد بأجرة؛ فإنه لم يخلص العمل لله فلا يكون عمله مقبولاً.

الثاني: أن يكون متبعاً فيه شريعة الله التي جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ي؛ أن يتبع الإنسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك- فما لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع وجود سببه فالسنة تركه. أي: إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله فإن السنة تركه.

ولهذا نقول: إن ما يفعله أكثر المسلمين اليوم من الاحتفال بمولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول بدعة ليس له أصل من السنة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحتفل بعيد مولده ولا خلفاؤه الراشدون، مع أننا نعلم علم اليقين أنه لو كان مشروعاً ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بلا بيان للأمة؛ لأن عليه البلاغ، فلما لم يقل للأمة أنه يشرع الاحتفال بهذه المناسبة، ولما لم يفعله هو بنفسه، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون، عُلم أنه بدعة لا يزيد فاعله من الله إلا بعداً نسأل الله العافية.

وهذه البدعة حدثت أول ما حدثت في القرن الرابع، أي: بعد مضي أكثر من ثلاثمائة سنة على الأمة الإسلامية، حدثت هذه البدعة وزعموا أنهم يعظمون فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحقيقة أن كل بدعة ليس فيها تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو باتباع سنته، كما قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:1].

ولننظر هذه البدعة! هل لها أصل من التاريخ؟ هل لها أصل من الشرع؟

نقول: ليس لها أصل من التاريخ، وذلك أن مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مختلف فيه على أكثر من خمسة أقوال، بعد الاتفاق على أنه في ربيع، لكن مختلف في أي يوم هو، وقد رجح بعض علماء التاريخ المعاصرين أنه كان في اليوم التاسع وليس في الثاني عشر، فبطل من الناحية التاريخية أن يكون في اليوم الثاني عشر.

أما من الناحية الشرعية فهو باطل لوجوه:

الأول: أنه عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون الذين أمرنا باتباع سنتهم، فإن ادعى مدعٍ أن ذلك مشروع في القرآن والسنة، أو في عمل الخلفاء الراشدين، أو الصحابة؛ فعليه الدليل؛ لأن البينة على المدعي، ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً -أي: لن يستطيع أن يأتي بدليل واحد من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين، أو الصحابة؛ على أنه يسن الاحتفال بيوم ميلاد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ثانياً: أن نقول: هذا الاحتفال إما أن يكون حقاً أو يكون باطلاً، فإن كان حقاً؛ لزم من ذلك أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- إما جاهلاً بالحق، وإما عالماً به وكاتماً له، وكلا الأمرين باطل يمتنع غاية الامتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً بشيء من شريعة الله، أو يكون عالماً به ولكن لم يبينه للأمة؛ لأن الاحتمال الأول: يقتضي أن يكون جاهلاً بالشرع مع أنه هو صاحب الشرع. والاحتمال الثاني: يقتضي أن يكون كاتماً ما أنزل الله إليه وحاشاه من ذلك، ولو كان كاتماً ما أنزل الله إليه لكتم قول الله -تعالى-: ﴿وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب:37].

ثالثاً: إذا تبين أنها بدعة، فإنه لا يحل لأحد أن يقيمها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار». ولو اتبع الحق أهواءهم وصار كل من عنَّ له أن في أمرٍ ما مشروعية فيشرعه؛ لاختلفت الأمة، ولتمزق الدين، ولكان كل قوم لهم دين معين، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة الإسلامية من وجوب الاتفاق على كلمة الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

رابعاً: نقول: هذه بدعة لم تقتصر على مجرد الاجتماع، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر محاسنه، ومآثره، وشريعته، بل عدل عن هذا إلى قصائد المديح البالغة في الغلو غايته، بل المتجاوزة لطبيعة البشر إلى حقوق الله -عز وجل- فقد كان هؤلاء الذين يجتمعون يترنمون بقصيدة البوصيري الذي كان يقول فيها يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم-:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي *** عفواً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم

قال بعض العلماء: إذا كان الأمر هكذا لم يبق لله شيء، ولم يكن الله تعالى هو الملجأ عند الشدائد والفزع، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، هو الملجأ وهذا غاية ما يكون من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار هؤلاء الذين يدعون أنهم يتقربون إلى الله بمثل هذه الاحتفالات، وأنهم هم المحبون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاروا في الحقيقة هم الذين يبتعدون عن الله عز وجل بما أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً.

ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى بمثل هذا أبداً، فإذا قالوا: إن منشأ هذا هو محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أجل أن نبين للنصارى أننا نعتني برسول الله كما كانوا يعتنون برسولهم فيجعلون من ميلاده عيداً، قلنا: إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله فهنا ميزان قسط عادل هو قوله -تعالى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:31] ولهذا كلما كان الإنسان أشد حباً لله كان أشد اتباعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلما كان أقل حباً لله كان أقل اتباعا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا رأيت الرجل يدعي محبة الله ورسوله لكنه لا يلتزم بالشريعة فاعلم أنه كاذب؛ لأن محبة الله ورسوله تنتج إنتاجاً لازماً، هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

فالحاصل أنه يجب على طلبة العلم هنا في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد الإسلامية أن يبينوا للعامة ولغير العامة أن هذا الاحتفال ليس له أصل من السنة، وأنه بدعة لا يزيد الإنسان إلا بعداً من الله -عز وجل- لأنه شرع في دين الله ما ليس منه.

فإن قال قائل: أليست الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروعة كل وقت؟

فالجواب: بلى. أكثر من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم يُعظِم الله لك فيها أجراً، ومن صلى عليه مرة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً، لكن ترتيبها في ليلة معينة والاجتماع عليها وذكر المدائح والقصائد البالغة في الغلو غايته هذا هو الممنوع، ونحن لا نقول: لا تصلوا على الرسول، بل نقول: أكثروا من الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- ولا نقول: لا تحبوا الرسول، ولكن نقول: أحبوا الرسول أكثر مما تحبون أنفسكم، ولا يكمل إيمانكم إلا بذلك، ولكن لا تُحدِثوا في دينه ما ليس منه.

فالواجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس، وأن يقولوا لهم: اشتغلوا بالعبادات الشرعية الصحيحة، واذكروا الله، وصلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل وقت، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأحسنوا إلى المسلمين في كل وقت، أما أن تجعلوا عيداً معيناً في السنة لم يجعله الله، فالله -تعالى- لم يجعل في السنة إلا ثلاثة أعياد فقط: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وعيد الأسبوع يوم الجمعة، أما أن تحدثوا أعياداً أخرى، فإنكم تحدثون في دين الله ما لم يشرعه.

تفسير قوله -تعالى-: (لهم أجر غير ممنون): 

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق:25] (لهم أجر) أي: ثواب، (غير ممنون) أي: غير مقطوع بل هو مستمر أبد الآبدين، والآيات في تأبيد الجنة كثيرة ومعلومة في الكتاب والسنة، وليس من الصعوبة بحيث نسوقها إليكم الآن؛ لأنها واضحة ولله الحمد، فأجر الآخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا هناك وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، كلا، الأجر فيها دائم ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم:62].

فنسأل الله -تعالى- أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين العاملين للصالحات المجتنبين للسيئات إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.