تفسير أواخر سورة المطففين
مدة الملف
حجم الملف :
5041 KB
عدد الزيارات 1618

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإننا في هذا اليوم الخميس الخامس والعشرين من شهر المحرم عام (1414هـ) نختتم اللقاءات في هذا الشهر؛ لأن هذا اللقاء هو الرابع في هذا الشهر.


تفسير قوله -تعالى-: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾:

قال الله -تعالى-: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ۞ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:25-26] الضمير في قوله: (يسقون) يعني: الأبرار، يسقيهم الله -عز وجل- بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ [الواقعة:17] ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ۞ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة:18-19]. فقوله: (يسقون من رحيق) أي: من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر على العقل، لا يسبب ألماً في الرأس، بخلاف شراب الدنيا، فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس.

أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى (ختامه) أي: بقيته وآخره، (مسك) أي: طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا، فإنه خبيث الرائحة، فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أُعطوها يوم القيامة.﴿وَفِي ذَلِكَ﴾ [المطففين:26] أي: وفي هذا الثواب والجزاء، ﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26] أي: فليتسابق المتسابقون سباقاً يصل بهم إلى حد المنافسة، وهو كناية عن السرعة في المسابقة، يُقال: نافسته، أي: سابقته سباقاً بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي: المسابقة إلى طاعة الله -عز وجل -وإلى ما يرضي الله -سبحانه وتعالى- والبعد عما يسخط الله.

تفسير قوله -تعالى-: ( وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ): 

ثم قال الله -عز وجل-: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ۞عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين:27-28] مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار (من تسنيم)، أي: من عينٍ رفيعة حساً؛ وذلك لأن (أنهار الجنة تفجر من الفردوس؛ والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل) كما ثبت ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم؛ أي: من المكان المسنّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن.

وقوله تعالى: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين:28] أي: أن هذه العين والمياه النابعة والأنهار الجارية يشرب بها المقربون.

وهنا سيقول قائل: لماذا قال: (يشرب بها)؟ هل هي إناء يحمل حتى يقال: شرب بالإناء؟

الجواب: لا. لأن العين والنهر لا يُحمل.

إذاً.. لماذا لم يقل: يشرب منها المقربون؟

والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين:

الوجه الأول: فمن العلماء من قال: إن (الباء) بمعنى (من) فمعنى (يشرب بها)، أي: يشرب منها.

الوجه الثاني: ومنهم من قال: إن يشرب ضُمنت معنى يروى، فمعنى (يشرب بها) أي: يُروى بها المقربون، وهذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما:

أولاً: إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي.

ثانياً: أن الفعل (يشرب) ضُمِّن معنىً أعلى من الشرب وهو الريُّ. فكم من إنسان يشرب، ولا يروى، لكن إذا روى، فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يُضمن الفعل (يشرب) معنى يروى.

تفسير قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) 

قال -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:29] (إن الذين أجرموا) أي: قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة، (كانوا) أي: في الدنيا، من الذين آمنوا يضحكون استهزاءً وسخريةً واستصغاراً لهم. ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾[المطففين:30] (وإذا مروا) الفاعل هل هم الذين أجرموا؟ أو الذين آمنوا؟ الآية تصلح لهذا وهذا، يصلح أن نقول: إذا مرَّ المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مرَّ المجرمون بالمؤمنين.

والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أَعَمَّ، فإذا جعلنا الآية للأمرين كان المعنى: أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضاً، فتكون شاملة للحالين، حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين. (يتغامزون) أي: يغمز بعضهم بعضاً، يقولون: انظر إلى هؤلاء سخريةً واستهزاءً واستصغاراً.

وقال -تعالى-: ﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين:31] إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم (انقلبوا فكهين) يعني: متفكهين بما نالوه من السخرية من هؤلاء المؤمنين، فهم يستهزئون ويسخرون ويتفكهون بهذا ظناً منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين ولكن الأمر بالعكس، ثم قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين:32] (إذا رأوهم) أي: رأى المجرمون المؤمنين قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32] ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون، متشددون، إلى غير ذلك من الألقاب.

ولقد كان لهؤلاء السلف خلفٌ في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، فمن الناس من يقول عن أهل الخير: إنهم رجعيون، إنهم متخلفون، ويقولون عن الملتزم: إنه متشدد متزمّت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل: إنهم سحرة أو مجانين، قال الله -تعالى-: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات:52] فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل؛ من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع والتعطيل لأهل الإثبات من السلف بأنهم حَشوَّية، مُجسِّمة، مُشبِّهة، وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي. ثم قال -تعالى-: ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين:33] أي: أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم بل الحكم لله عز وجل.

تفسير قوله -تعالى-: ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا... ): 

ثم قال -تعالى-: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:34] (اليوم) يعني: يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار، (فالذين) مبتدأ و(يضحكون) خبره و(من الكفار) متعلق بـ(يضحكون) والمعنى: فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين من المؤمنين في الدنيا، فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور. ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين:35] أي: أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، و(الأرائك): هي السرر الفخمة الحسنة النظرة (ينظرون) أي: ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون منهم في الدنيا، كما قال الله -تعالى-:﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ۞ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ۞ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ۞ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾[الصافات:51-54] يقول لأصحابه في الجنة ويعرض عليهم أن يطلع كل إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات:55] في قعره وأصله، قال له:﴿ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ [الصافات:56-57]. فأنت ترى الآن أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار، والمؤمنون في الجنة، قال: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين:35] إذاً ينظرون شيئين:

الشيء الأول: ما أعد الله لهم من النعيم، ومنه النظر إلى وجه الله -عز وجل-.

والثاني: ينظرون إلى هؤلاء المكذبين الذين كانوا في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله. ثم قال -تعالى-: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين:36] (ثوب) أي: جوزي، و(هل) هنا للتقرير، أي: أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء، فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكمٌ عدل، فحكمه دائرٌ بين العدل والفضل؛ بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل.

فالحمد لله رب العالمين.

وبهذا يتم الكلام الذي يسره الله -عز وجل- على سورة المطففين، نسأل الله -تعالى- أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين إنه جواد كريم.