تفسير آيات من سورة النبأ
مدة الملف
حجم الملف :
4787 KB
عدد الزيارات 2664

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فإننا نفتتح هذه الجلسة الأسبوعية الأولى، لشهر جمادى الأولى، الخميس الأول منه، الرابع عشر من الشهر، عام (1413هـ)، وكنا نتكلم على تفسير سورة النبأ، حتى بلغنا إلى قوله -تعالى-: ﴿وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ [النبأ:20].


تفسير قوله -تعالى-: ( إن جهنم كانت مرصاداً ):

ثم قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ [النبأ:21] أي: مرصدة ومعدة للطاغين، وجهنم اسمٌ من أسماء النار التي لها أسماءٌ كثيرة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها ذات جهمة، وظلمة بسوادها وقعرها -أعاذنا الله وإياكم منها- وهي مرصاد للطاغين قد أعدها الله -عز وجل- لهم من الآن، فهي موجودة كما قال -تعالى-: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة:24]، و(رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرضت عليه، وهو يصلي صلاة الكسوف، ورأى فيها امرأةً تعذب في هرة لها حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي، يجر قصبه في النار) -أي: أمعاءه-؛ وهو أول من أدخل الشرك على العرب.

تفسير قوله تعالى: ( للطاغين مآباً): 

هذه النار يقول الله -عز وجل- إنها: ﴿لِلْطَّاغِينَ مَآباً﴾ [النبأ:22] والطاغين جمع طاغٍ، وهو الذي تجاوز الحد؛ لأن الطغيان: مجاوزة الحد، كما قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة:11] أي: زاد وتجاوز حده.

وتجاوز الحد يكون في حقوق الله، وفي حقوق العباد، أما في حقوق الله -عز وجل- فإنه التفريط في الواجب أو التعدي في المحرم، وأما الطغيان في حقوق الآدميين، فهو العدوان عليهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم، هذه الثلاثة التي حرمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلن تحريمها في حجة الوداع في عدة مواضع، فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فالطغاة في حقوق الله، وفي حقوق العباد هم أهل النار -والعياذ بالله-، ولهذا قال: ﴿لِلْطَّاغِينَ مَآباً﴾ [النبأ:22] أي: مكان أوب، والأوب في الأصل الرجوع، كما قال -تعالى-: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:30] أي: رجَّاع إلى الله -عز وجل-.

تفسير قوله تعالى: (لابثين فيها أحقاباً): 

قال -تعالى-: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ [النبأ:23] أي: باقين فيها أحقاباً؛ أي: مدداً طويلة، وقد دلَّ القرآن الكريم على أن هذه المدد لا نهاية لها، وأنها مدد أبدية كما جاء ذلك مصرحاً به في ثلاث آيات من كتاب الله: - في سورة النساء في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ۞ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾ [النساء:168-169]. - وفي سورة الأحزاب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ۞ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً﴾ [الأحزاب:64-65]. - وفي سورة الجن في قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ [الجن:23]. فإذا كان الله صرح في ثلاث آيات من كتابه، بأن أصحاب النار مخلدون فيها أبداً، فإنه يلزم أن تكون النار باقية أبد الآبدين.

وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة : أن النار والجنة مخلوقتان لا تفنيان أبداً، ووجد خلافٌ يسير من بعض أهل السنة في أبدية النار، وزعموا أنها غير مؤبدة، واستدلوا بحججٍ هي في الحقيقة شبه لا دلالة فيها لما ذهبوا إليه إذا قورنت بالأدلة الأخرى؛ فهو خلافٌ لا معول على المخالف فيه، ولا على قوله.

والواجب على المؤمن أن يعتقد ما دل عليه كتاب الله دلالةً صريحة، لا تحتمل التأويل، والآيات كما سمعتم كلها آيات محكمة لا يتطرق إليها النسخ ولا الاحتمال، أما عدم تطرق النسخ إليها فلأنها خبر، وأخبار الله عز وجل لا تنسخ، وكذلك أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نسخ أحد الخبرين بالآخر يستلزم كذب أحدهما: إما تعمداً من المخبر، أو جهلاً بالحال، وكل ذلك ممتنع في خبر الله، وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم- المبني على الوحي.

المهم أيها الإخوة: أنه يجب علينا أن نعتقد أمرين: الأمر الأول: وجود الجنة والنار الآن.

وأدلة ذلك من القرآن والسنة كثيرة، منها قوله -تعالى-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:133] والإعداد التهيئة، وهذا الفعل ﴿أُعِدَت﴾ فعل ماضٍ يدل على أن الإعداد قد وقع، وكذلك قال الله -تعالى- في النار: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:131] والإعداد تهيئة الشيء، والفعل هنا ماضٍ يدل على وقوع، وقد جاءت السنة صريحةً في ذلك في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى الجنة ورأى النار، الأمر الثاني: اعتقاد أنهما داران أبديتان من دخلهمان وهو من أهلهما، فإنه يكون فيهما أبداً، أما الجنة فمن دخلها لا يخرج منها، كما قال -تعالى-: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر:48]، وأما النار فإن عصاة المؤمنين يدخلون فيها ما شاء الله أن يبقوا فيها، ثم يكون مآلهم الجنة كما شهدت بذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقوله -تعالى-: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ [النبأ:23] لا تدل بأي حال من الأحوال على أن هذه الأحقاب مؤمدة، أي: إلى أمدٍ ثم تنتهي، بل المعنى: أحقاباً كثيرة لا نهاية لها.

تفسير قوله تعالى: ( لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ): 

قال -تعالى-: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً﴾ [النبأ:24] نفى فيها البرد الذي تكون به برودة ظاهر الجسم، والشراب الذي تكون به برودة داخل الجسم، وذلك لأنهم -والعياذ بالله- كما قال الله -تعالى-: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ [الكهف:29]. وهل الماء الذي كالمهل وإذا قُرب من الوجه شوى الوجه هل ينتفع به صاحبه؟ الجواب: لا. بل بالعكس ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد:15]، أما في ظاهر الجسم فقد قال الله -تعالى-: ﴿خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۞ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ﴾ [الدخان:47-48] وقال الله -تعالى-: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج:19-20] ما في بطونهم من الأمعاء، والجلود ظاهر الجسم، فمن كان كذلك فإنهم لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، يُطفئ حرارة بطونهم.

ومن تدبر ما في القرآن والسنة من الوعيد الشديد لأهل النار، فإنه كما قال بعض السلف: (عجبت للنار كيف ينام هاربها، وعجبت للجنة كيف ينام طالبها)، إننا لو قال لنا قائل: إن لكم في أقصى الدنيا قصوراً، وأنهاراً، وزوجات، وفاكهة، لكنا نسير على أهداب أعيننا ليلاً ونهاراً؛ لنصل إلى هذه الجنة التي بها هذا النعيم العظيم، والتي نعيمها دائم لا ينقطع، وشباب سكانها دائم لا يهرم، وصحته دائمة ليس فيها سقم، وانظروا إلى الناس اليوم يذهبون إلى مشارق الأرض، ومغاربها لينالوا درهماً من الدنيا، أو ديناراً، قد يتمتعون به، وقد لا يتمتعون به، فما بالنا نقف هذا الموقف من طلب الجنة، وهذا الموقف من الهرب من النار؟!

نسأل الله أن يعيذنا، وإياكم من النار، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.