تفسير سورة البلد
مدة الملف
حجم الملف :
28572 KB
عدد الزيارات 3431

عناصر المادة :
تفسير الآية (1)
تفسير الآية (2)
تفسير الآية (3)
تفسير الآية (4)
تفسير الآية (5)
تفسير الآية (6)
تفسير الآية (7)
تفسير الآيات (8-10)
تفسير الآيات (11-13)
تفسير الآية (14)
تفسير الآية (15)
تفسير الآية (16)
تفسير الآية (17)
تفسير الآية (18)
تفسير الآية (19)
تفسير الآية (20)

يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: ١، ٢].
ولي تعريجة يسيرة على ما سبق في الدرس الماضي في قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: ٢٥، ٢٦]، فإني قرأتُها هكذا، وفسَّرتُها على هذه القراءة؛ لأنَّ في الآيتين المذكورتين قراءتين: القراءة الأولى التي في المصحف: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌأي: لا يُعَذِّب عذابَ اللهِ أحدٌ، بل عذابُ اللهِ أشدُّ، ولا يُوثِق وثاقَ اللهِ أحدٌ، بل هو أشدُّ.
أمَّا على قراءة {لَا يُعَذَّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي: لا يعذَّب عذابَ هذا الرجلِ ولا يُوثَق وثاقَ هذا الرجلِ، وهذا هو الذي قرأنا الآية عليه وفسَّرناها به، فلأجل هذا جرى التنبيه.

تفسير الآية (1)
00:01:08

يقول الله عز وجل: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد: ١] لَاهذه للاستفتاح، لاستفتاح الكلام وتوكيد الكلام، وليست نافيةً؛ لأن المراد إثبات القَسَم؛ يعني: أنا أُقسم بهذا البلد، لكن لَاهذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد.
وأُقْسِمُالقسم: تأكيد الشيء بذِكْر معظَّمٍ على وجهٍ مخصوصٍ، إذَن كلُّ شيءٍ محلوفٍ به فإنه لا بدَّ أن يكون معظَّمًا لدى الحالف، وقد لا يكون معظَّمًا في حدِّ ذاته؛ فمثلًا الذين يحلفون باللات والعُزَّى هي معظَّمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظَّمة. فالحَلِف إذَن أو القَسَم أو اليمين -والمعنى واحد- هي تأكيد الشيء بأيش؟ بذِكْر معظَّم، عند مَن؟ عند الحالف على صفةٍ مخصوصةٍ.
وحروف القَسَم هي: الباء، والواو، والتاء. والذي في الآية الكريمة هنا: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِأيُّ الحروف؟ الباء.
بِهَذَا الْبَلَدِالبلد هنا مكة، وأَقْسم الله بها لشرفها وعِظَمها، فهي أعظم بقاع الأرض حُرمةً، وأحبُّ بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بُعث منها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجديرٌ بهذا البلد الأمين أن يُقسَم به، ولكن نحن لا نُقسم به؛ لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نُقسم بمخلوق؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ» أو: «أَشْرَكَ» ، أمَّا الله عز وجل فإنه يُقسِم بما شاء، ولهذا أَقسم هنا بمكة؛ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ.
تفسير الآية (2)
00:03:30

{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}
[البلد: ٢].
قيل: المعنى: أُقسِم بهذا البلد حال كونك حالًّا فيه؛ لأن حلول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مكة يزيدها شرفًا إلى شرفها.
وقيل: المعنى: وأنت تستحلُّ هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حالَ كونها حِلًّا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عامَ الفتح أُحِلَّتْ للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تحلَّ لأحدٍ قبله، ولا تحلُّ بعد ذلك لأحد؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ» .
فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيَّدًا بما إذا كانت حِلًّا للرسول، وذلك متى؟ عام الفتح؛ لأنها في ذلك اليوم تزداد شرفًا إلى شرفها حيثُ طُهِّرتْ من الأصنام، وهُزِم المشركون، وفُتحت عليهم بلادُهم عنوةً، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلاد كفرٍ صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بلاد شركٍ؛ صارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عنادٍ صارت بلاد إسلام، فأشرفُ حالٍ لمكة كانت عند الفتح، إذَن في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِمعنيان أرجو أن يكونا على بالكم.
تفسير الآية (3)
00:05:25

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}
[البلد: ١ - ٣] أي: وأُقسم بالوالد وما ولد، فمَن المراد بالوالد، ومَن المراد بالولد؟
قيل: المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم، وعلى هذا تكون (ما) بمعنى (مَن) أي: ووالدٍ ومَن ولد؛ لأن (مَن) للعقلاء، و(ما) لغير العُقلاء.
وقيل: المراد بالوالد وما ولد كلُّ والدٍ وما ولد؛ الإنسانُ، والبهائمُ، وكلُّ شيء؛ لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل؛ كيف يخرج -مثلًا- هذا المولود حيًّا سويًّا سميعًا بصيرًا من نُطفةٍ، من ماءٍ؟! فهذا دليلٌ على كمال قدرة الله عز وجل؛ هذا الولد السوِيُّ يخرج من نطفة؛ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس: ٧٧]، كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفةً هزيلةً ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حدٍّ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَإذَن الصحيح أنَّ هذه عامَّةٌ تشمل كلَّ والدٍ وكلَّ مولودٍ.
تفسير الآية (4)
00:07:07

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}
[البلد: ٤] اللام هنا واقعةٌ في جواب القَسَم لتزيد الجملة تأكيدًا، و(قد) تزيد الجملة تأكيدًا أيضًا فتكون جملة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَمؤكَّدةً بثلاثة مؤكِّدات وهي: القسم، والثاني: اللام، والثالث: (قد).
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، الْإِنْسَانَاسم جنسٍ يشمل كلَّ واحدٍ من بني آدم.
فِي كَبَدٍفيها معنيان:
المعنى الأول: في استقامةٍ؛ يعني أنه خُلِق على أكمل وجهٍ في الخِلْقة؛ مستقيمًا، يمشي على قدميه، ويرفع رأسَه، وبدنُه معتدل، والبهائم بالعكس؛ الرأس على حذاء الدُّبُر، أليس كذلك؟! أمَّا بنو آدم لا؛ الرأس مرتفعٌ أعلى البدن، فهو كقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: ٤].
وقيل: المراد بالكَبَد مُكابدة الأشياء ومعاناتُها، وأنَّ الإنسان يعاني المشقَّة في أمور الدنيا؛ في طلب الرزق، في إصلاح الحرث، في غير ذلك، ويعاني أيضًا معاناةً أشدَّ مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله واجتناب معاصي الله، وهذا هو الجهاد الذي أشقُّ مِن معاناة طلب الرزق، ولا سيَّما إذا ابتُلي الإنسانُ ببيئةٍ منحرفةٍ وصار بينهم غريبًا فإنه سيجد المشقَّة في معاناة نفسِه وفي معاناة الناس أيضًا.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الآيةُ شاملةً للمعنيين؟
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدتَ في الكتاب العزيز آيةً تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضةٌ، فاحملها على المعنيين؛ لأن القرآن أشمل وأوسع، فإنْ كان بينهما مناقضةٌ فانظر الراجح؛ فمثلًا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] قُرُوءٍجمع قَرء، بفتح القاف، فما هو القَرء؟ قيل: هو الحيض. وقيل: هو الطُّهر. هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعًا، لماذا؟ للتناقض. لكن اطلب المرجِّح لأحد القولين وخُذ به.
فهُنا نقول: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍيصح أن تكون الآية شاملةً للمعنيين؛ أي: في حُسنِ قامةٍ واستقامةٍ، وفِي كَبَدٍفي معاناةٍ لمشاقِّ الأمور.
ولنقتصر على هذا القَدْر من آيات الله البيِّنات لنتفرغ للأسئلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعًا ممن يتلون كتابه حقَّ تلاوته، وأن يَهَب لنا منه رحمةً إنه هو الوهاب.

***

(...) والذي يتمُّ فيه اللقاء مع الإخوة في كل أسبوع، وهذا هو اللقاء الموفي للسبعين لقاءً، وهو الذي يتمُّ في شهر ربيع الأول عام خمسة عشر وأربع مئة وألف، ومن عادتنا أن نتكلم أولًا عن تفسير آياتٍ كنَّا معها من سورة النبأ حتى انتهينا إلى أول سورة البلد في قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد: ٤ - ٧]، وبيَّنَّا أن قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍله معنيان عند أهل العلم:
المعنى الأول: الكَبَد يعني التمام والرِّفعة في الخِلْقة والعقل وغير ذلك.
والمعنى الثاني: في مُكابدةٍ لمشاقِّ الأعمال الدنيوية والأُخروية.
والقاعدة في تفسير كتاب الله عز وجل يا إخواننا، القاعدة أنَّ الآية إذا كانت تحتمل معنيين ولا تناقُض بينهما فإنها تُحمَل على المعنيين جميعًا؛ لأن ذلك أوسع في التفسير والعلم.
تفسير الآية (5)
00:12:24

يقول الله عز وجل: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: ٥] يعني أنَّ الإنسان في نفسه وقوَّته يظنُّ أن لن يقدر عليه أحد؛ لأنَّه في عنفوان شبابه وقوَّته وكبريائه وغطرسته، فيقول: لا أحد يقدر عليَّ، أنا أعمل ما شئتُ. ومنه قوله تبارك وتعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًفقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: ١٥] .
إذَن فالإنسان في حال صحَّته وعنفوان شبابه يظنُّ أنه لا يقدر عليه أحد، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، حتى الربُّ عز وجل؛ يظنُّ أنَّه لا يقدر عليه. أمَّا المؤمن فإنه يعلم أن الله قادرٌ عليه وأنه على كلِّ شيء قديرٌ فيخافُ اللَّهَ.
تفسير الآية (6)
00:13:30

{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}
[البلد: ٦] يقول الإنسانُ أيضًا في حال غِناه وبَسْط الرزق له: أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًاأي: مالًا كثيرًا، في شهواته وفي مَلذَّاته.
تفسير الآية (7)
00:13:46

يقول الله عز وجل: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد: ٧] أيظنُّ هذا أنه لا يراه أحدٌ في تبذيره المالَ، وصَرْفه فيما لا ينفع؟! وكلُّ هذا تهديدٌ للإنسان؛ أنْ يتغطرس وأنْ يستكبر من أجل قوَّته البدنية أو كثرةِ ماله.
تفسير الآيات (8-10)
00:14:10

قال الله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ٨ - ١٠] هذه ثلاث نِعَمٍ من أكبر النِّعم على الإنسان.
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد: ٨] يعني يُبصر بهما ويرى بهما، وهاتان العينان تؤدِّيان إلى القلب ما نظر إليه الإنسانُ؛ إنْ نَظَر نظرةً محرَّمةً كان آثمًا، وإنْ نَظَر نظرًا يُقَرِّبه إلى الله كان غانمًا، وإنْ نَظَر إلى ما يُباح له فإنَّه لا يُحمَد ولا يُذَمُّ، ما لم يكن هذا النظر مُفضيًا إلى محظورٍ شرعيٍّ فيكون آثمًا بهذا النظر.
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد: ٩] لسانًا ينطق به، وشَفَتين يضبط بهما النُّطق، وهذه من نِعَم الله العظيمة؛ لأنه بهذا اللسان والشفتين يستطيع أن يعبِّر عمَّا في نفسه، ولولا هذا ما استطاع، لو كان لا يتكلم فكيف يؤدِّي ما في قلبه؟! كيف يُعلم الناسَ بما في نفسه؟! اللَّهم إلا بإشارةٍ تُتعب؛ يتعب هو -أي: المشير- ويتعب المشار الذي أُشير له، ولكن من نعمة الله أن جعل له لسانًا ناطقًا وشفتين يضبط بهما النطق، وهذا من نعمة الله، وهو أيضًا من عجائب قُدرته؛ مِن أين يأتي النُّطق؟ من هواءٍ يكون من الرئة، يخرج من مخارج معيَّنة، إنْ مرَّ بشيءٍ صار حرفًا، وإنْ مرَّ بشيءٍ آخَر صار حرفًا آخَر، وهو هواءٌ واحدٌ من مخرجٍ واحدٍ، لكن يمرُّ بشعيراتٍ دقيقةٍ في الحلقِ وفي الشفتين وفي اللثة، هذه الشعرات تُكوِّن الحروف، فتجد مثلًا الباء والشين كُلُّها بهواءٍ يندفع من الرئة، ومع ذلك تختلف باختلاف ما يمرُّ عليه في هذا الفم ومخارج الحروف المعروفة، هذا من تمام قدرة الله عز وجل.
قال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠] هَدَيْنَاهُأي: بيَّنَّا له طريقَ الخير وطريقَ الشر، هذا قول.
القول الثاني: هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِدلَلْناه على ما به غِذاؤه، وهو الثديان؛ فإنهما نجدانِ لارتفاعهما فوق الصدر، فهداه الله تعالى وهو رضيعٌ لا يعرف؛ مِن حين أن يخرج وتضعه أمُّه يطلب الثدي، مَن الذي أعلمه؟ الله عز وجل. فبيَّن الله عز وجل مِنَّته على هذا الإنسان؛ مِن حين أن يخرج يهتدي إلى النجدين.
وفي بطن أُمِّه يتغذَّى عن طريق السُّرَّة؛ لأنه لا يستطيع أن يتغذَّى من غير هذا، لو تغذَّى عن طريق الفم لاحتاج إلى بولٍ وغائطٍ، وكيف ذلك؟! لكنَّه عن طريق السُّرَّة، يأتيه الدم من دم أمِّه وينتشر في عروقه حتى يحيا إلى أنْ يأذن الله تعالى بإخراجه.
ثم قال الله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: ١١] و(...).

***

تفسير الآيات (11-13)
00:17:50

(...) نبتدئ هذا اللقاء بتكميل الكلام على سورة البلد، حيث وقفنا على قول الله تبارك وتعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد: ١١ - ١٣] إلى آخر السورة.
فَلَا اقْتَحَمَأي: الإنسان الذي كان يقول: أهلكتُ مالًا لُبَدًا فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: ١١] يعني: هلَّا اقتحم العقبة. والاقتحام هو التجاوز بمشقَّة، تجاوُز الشيءِ بمشقَّةٍ يُسَمَّى اقتحامًا، والعَقَبةُ هي الطريق في الجبل الوعر، ولا شك أن اقتحام هذه العَقَبة لا شك أنه صعبٌ شاقٌّ على النفوس، لا يقوم به إلا مَن كان عنده نِيَّةٌ صادقةٌ في تجاوُز هذه العَقَبة.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد: ١٢] هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا؛ يعني: ما الذي أَعلمك شأنَ هذه العَقبة التي قال الله عنها: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ؟
بيَّنَها الله بقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: ١٣ - ١٧] إلى آخره.
فقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ [البلد: ١٣] هي خبرٌ لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي فكُّ رقبةٍ. وفكُّ الرقبة له معنيان:
المعنى الأول: فَكُّها من الرِّقِّ، بحيث يُعتق الإنسانُ العبيدَ المملوكين سواءٌ كانوا في مُلكه فيُعتقهم أو كانوا في مُلك غيره فيشتريهم ويُعتقهم، هذا نوع.
النوع الثاني: فكُّ رقبةٍ من الأَسْر؛ فإنَّ فكاك الأسير من أفضل الأعمال إلى الله عز وجل، والأسير ربما لا يفكُّه العدوُّ إلا بفِديةٍ ماليَّةٍ، وربما تكون هذه الفِدية فِديةً باهظةً كثيرةً لا يقتحمها إلا مَن كان عنده إيمانٌ بالله عز وجل بأنْ يُخلِف عليه ما أنفق وأنْ يُثيبه على ما تصدَّق.
فصار فكُّ الرقبة له معنيان:
المعنى الأول: فكُّ الرقبة من الرِّقِّ بحيث يحرِّرها؛ إنْ كانت في مُلكه ففي مُلكه، وإلَّا اشتراها وحرَّرها.
والثاني: فكُّ الرقبة من الأَسْر.
تفسير الآية (14)
00:20:57

قال: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد: ١٤] أَوْهذه للتنويع؛ يعني: وإمَّا إطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغبةٍ؛ أي: ذي مجاعةٍ شديدةٍ؛ لأن الناس قد يُصابون بالمجاعة الشديدة إمَّا لقِلَّة الحاصل من الثمار والزروع، وإمَّا لأمراضٍ في أجسامهم؛ يأكلُ الإنسانُ ولا يشبع، وهذا قد وقع فيما نسمع عنه، وقع في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضًا أنَّ الناس يأكلون ولا يشبعون، يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع، ويموتون من الجوع في الأسواق، يتساقطون في الأسواق من الجوع، هذه من المساغب.
أو قِلَّة المحصول؛ بحيث لا تُثمر الأشجار، ولا تنبت الزروع، فيقلُّ الحاصل وتحصل المسغبة، ويموت الناسُ جوعًا، وربما يهاجرون عن بلادهم.
تفسير الآية (15)
00:22:01

{يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}
[البلد: ١٥، ١٦]، يَتِيمًااليتيم هو مَن مات أبوه قبل أن يَبْلغ سواءٌ كان ذكرًا أمْ أنثى، فإنْ بلغ فإنه لا يكون يتيمًا؛ لأنه بلغ وانفصل، وكذلك أيضًا لو ماتتْ أُمُّه فإنه لا يكون يتيمًا خلافًا لِمَا يظنُّه بعضُ العامَّة أنَّ اليتيم مَن ماتتْ أُمُّه، وهذا ليس بصحيح، اليتيمُ مَن مات أبوه؛ لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسبٌ من الخلْق يكسب عليه.
وقوله: ذَا مَقْرَبَةٍأي: ذا قرابةٍ من الإنسان؛ لأنه إذا كان يتيمًا كان له حظٌّ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريبًا ازداد حظُّه من ذلك لأنه يكون واجبَ الصِّلة، فمَن جمع هذين الوصفين: اليُتْم والقرابة، فإنَّ الإنفاق عليه من اقتحام العَقبة إذا كان ذلك في يوم مَسْغبة.
تفسير الآية (16)
00:23:15

{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}
[البلد: ١٦] يعني: أو إطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغبةٍ مسكينًا ذا مَتْربة.
المسكين: هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله، والمتربة: مكان التراب، والمعنى أنه مسكين ليس بيديه شيءٌ إلا التراب، ومعلومٌ أنه إذا قيل عن الرجل: ليس عنده إلا التراب، فالمعنى أنَّه فقيرٌ جِدًّا، ليس عنده طعام، وليس عنده كساء، وليس عنده مال، فهو مسكينٌ ذو مَتْربة.
تفسير الآية (17)
00:24:01

{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
[البلد: ١٧].
ثُمَّ كَانَيعني: ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا على اليتامى وعلى المساكين، بل هو ذو إيمانٍ بالله.
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِالذين آمنوا بِمَن؟ آمنوا بكلِّ ما يجب الإيمان به، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَن الذي يجب الإيمان به فقال حين سأله جبريل عن الإيمان: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، والْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» .
وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِأي: أَوْصى بعضُهم بعضًا بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة. فهُم صابرون متواصون بالصبر، وأيُّ هذه الأنواع أفضل؟ الأفضل الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة، وقد اجتمعتْ هذه الأنواع الثلاثة؛ اجتمعتْ في الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.
فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام صابرٌ على طاعة الله؛ يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذَى، ويُعتدَى عليه بالضرب، حتى همَّ المشركون بقتله، وهو مع ذلك صابرٌ محتسبٌ.
هو أيضًا صابرٌ عن معصية الله؛ لا يمكن أنْ يغدر بأحد، ولا أنْ يَكذب أحدًا، ولا أنْ يخون أحدًا، وهو أيضًا مُتَّقٍ لله تعالى بقَدْر ما يستطيع.
كذلك صابرٌ على طاعة الله؛ كم أُوذِيَ في الله عز وجل من أجْل طاعته؛ أليست قريشٌ قد آذَوْه حتى إذا رأوه ساجدًا تحت الكعبة أمروا مَن يأتي بسَلَى ناقةٍ فيضعه على ظهره وهو ساجدٌ عليه الصلاة والسلام، وهو صابرٌ في ذلك كُلِّه.
يوسف عليه الصلاة والسلام صَبَرَ على أقدار الله، وقد أُلقِيَ في البئر في غيابة الجبِّ، وأُوذِيَ في الله بالسجن، ومع ذلك فهو صابرٌ محتسبٌ لم يتضجَّر ولم يُنكر ما وقع به.
وقوله: وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِأي: أَوْصى بعضُهم بعضًا أن يرحم الآخَر. والرحمة رحمة الإنسان للمخلوقات، تكون في البهائم وتكون في الناطق؛ فهو يرحم آباءه وأمهاته، وأبناءه وبناته، وإخوانه وأخواته، وأعمامه وعماته ... وهكذا، ويرحم كذلك سائر البشر، وهو أيضًا يرحم الحيوان البهيم؛ فيرحم ناقته، وفرسه، وحماره، وبقرته، وشاته، وغير ذلك، وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» .
تفسير الآية (18)
00:29:14

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}
[البلد: ١٨]، أُولَئِكَأي: هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِأي: أصحاب اليمين الذين يُؤتَوْن كتابَهم يوم القيامة بأيمانهم؛ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: ٧ - ٩].
تفسير الآية (19)
00:29:34

ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد: ١٩].
لما ذكر المؤمنين ذكر الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَاأي: جحدوا بها هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِالضمير هنا جاء للتوكيد، ولو قيل في غير القرآن: والذين كفروا بآياتنا أصحابُ المشأمة، لَصحَّ، لكن هذا من باب التوكيد، والْمَشْأَمَةِيعني الشمال أو الشؤم.
تفسير الآية (20)
00:30:09

{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}
[البلد: ٢٠] أي: عليهم نارٌ مُغلَقة -والعياذ بالله- لا يخرجون منها ولا يستطيعون.
نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصَوْا بالصبر وتواصَوْا بالمرحمة.