تفسير سورة الزخرف - 1
مدة الملف
حجم الملف :
84195 KB
عدد الزيارات 5121

عناصر المادة :
تفسير الآيات (1-3)

تفسير الآيات (1-3)
00:00:04

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، ففي هذا الصباح صباح يوم السبت الخامس عشر من شهر ربيع الأول عام واحد وعشرين وأربع مئة وألف نستفتح الدروس الصيفية في الجامع الكبير في عُنَيْزَة، والتي تستمر خمسة أيام في كل أسبوع: السبت، والأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، من الساعة الثامنة إلى تقريب الساعة العاشرة والنصف، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ورزقًا طيبًا واسعًا.
نبتدئ جلسة هذا اليوم بالتفسير كما هو مُقَرَّر في الجدول، فليقرأ أحدكم ممن أعطاه الله حَلْقًا واسعًا وأداءً جيدًا، ليقرأ ما سنبدأ به اليوم من سورة الزخرف.
طالب: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: ١ - ٤].
الشيخ: الزخرف التي نبتدئ دراسة التفسير بها، ولكني أُقَدِّم بين هذا مُقَدِّمَات:
أولًا: القرآن الكريم ما عقيدة أهل السنة فيه؟
الجواب: عقيدة أهل السنة في القرآن الكريم أنه كلام الله عز وجل، كلام الله حقيقةً، تكلَّم به حرفيًّا، وأراد معناه حسب اللغة العربية، كما قال عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، هذا القرآن ينزل شيئًا فشيئًا كما قال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: ١٠٦]، أي: شيئًا فشيئًا حسب ما يحتاج الناس ينزل في وقت نزوله.
ومنها –أي: من المقدمات- أن القرآن الكريم نزل على وجهين؛ الوجه الأول: ما له سبب، والثاني: ما لا سبب له، الأول: ما له سبب، أي: نزل بسبب حادثة وقعت فنزل فيها.
ومن الضوابط في هذا أن كل آية فيها يَسْأَلُونَكَفإنها لسبب، (يسألونك عن كذا) هذا سبب، فكلما رأيت في القرآن الكريم آية مُصَدَّرَة بكلمة يَسْأَلُونَكَفإنها نزلت لسبب، وقد يذكر فيها يَسْأَلُونَكَحسب ما ذُكِر في كتب التفسير.
إذا نزلت الآية لسبب فهل تختص بذلك السبب، أو تكون عامَّة له ولما يشاركه في العلة؟
الجواب: تكون عامة له ولما يشاركه في العلة، ولهذا قال العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فمثلًا: أول سورة المجادلة نزلت في قصة رجل معين -أوس بن الصامت- فهل نقول: إن هذا الحكم خاص به، أو نقول: إنه عامٌّ له ولمن يشاركه في المعنى؟ الثاني، فكل مَن ظاهر من امرأته فله حكم ظِهَار أوس بن الصامت رضي الله عنه.
وهذه القاعدة تفيدك في استعمال الاستدلال بالقرآن الكريم، وأن الأصل هو العموم.
القرآن الكريم له خصائص كثيرة، منها: أنه لا يمسه الإنسان إلا على طهارة، يعني أن الْمُحْدِث لا يحل له أن يمس المصحف حتى يتوضأ؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما كتبه لعمرو بن حزم: «أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» أي: طاهر من الحدث؛ لأن الطهارة من الحدث تسمى طهارة، كما قال عز وجل في آية الوضوء والغسل والتيمم: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة: ٦].
واستثنى بعض العلماء -رحمهم الله- الصغار غير الْمُكَلَّفِين، فقال لهم أن يَمَسُّوا المصحف بدون وضوء؛ لأنهم غير مُكَلَّفِين.
وفي هذا الاستثناء نظر؛ لأننا لو قلنا بهذا لقلنا: يجوز لهؤلاء الصغار أن يُصَلُّوا بغير طهارة، ولا قائل به فيما أعلم، وعلى هذا فلا بد من الطهارة حتى للصغار.
لكن ما دعت الحاجة إلى مَسِّهِ بدون طهارة؛ كألواح الصغار الذين يتعلمون في المدارس، هؤلاء لا يحتاجون إلى وضوء؛ لأننا لو كَلَّفْنَاهم بذلك لشقَّ عليهم.
هذا القرآن الكريم لا يحل للجُنُب أن يقرأ منه آية فأكثر حتى يغتسل، فإذا كان على الإنسان جنابة فإنه لا يَحِلُّ له أن يقرأ شيئًا من القرآن آية فأكثر إلا إذا اغتسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم كان يُقْرِئ أصحابه القرآن ما لم يكن جُنُبًا، أو قال: ما لم نكن جُنُبًا .
فإن قال قائل: هل يجوز للجُنُب أن يقرأ آية لا لقصد القرآن ولكن لأنها آية دعاء مثلًا، مثل: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [آل عمران: ٨]؟
فالجواب: نعم، يجوز له هذا؛ لأنه لم يقصد تلاوة القرآن.
فإن سأل سائل: ما تقولون في قراءة الحائض القرآنَ؟
فالجواب: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين؛ القول الأول: أن الحائض لا يجوز لها أن تقرأ القرآن؛ لأنها كالجنب، والقول الثاني: لها أن تقرأ القرآن؛ لأنه ليس في السنة دليل صحيح صريح يمنع الحائض من قراءة القرآن، ولو كانت الحائض لا تقرأ القرآن لبُيِّنَ ذلك، من كثرة وقوع الحيض واحتياج النساء إلى بيان الحكم، فلما لم يَرِد في ذلك حديث صحيح صريح فما الأصل؟ الأصل الجواز؛ لأن القرآن من الذِّكْر، والحائض لا تُمْنع منه.
وعندي أن الحائض تقرأ القرآن لحاجة أو مصلحة؛ الحاجة كأن تقرأ وِرْدَها من القرآن، مثل: آية الكرسي، (قل هو الله أحد)، (قل أعوذ برب الفلق)، (قل أعوذ برب الناس)، هذه حاجة، أو تقرأ القرآن لئلا تنساه، هذه حاجة أيضًا.
لمصلحة؛ مثل: أن تُقْرِئ ابنتها أو طفلها القرآن؛ أي: تُعَلِّمه القرآن؛ لأنه إذا لم يَرِد دليل صحيح صريح في المنع وكانت المسألة فيها احتمال فالاحتياط أولى.
إذن الحكم الآن الذي اخترناه أن لها أن تقرأ القرآن لحاجة أو مصلحة؛ لعدم الدليل الصحيح الصريح على منعها.
القرآن الكريم مختص بأن كل حرف منه حسنة، في كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وليس ذلك موجودًا في السُّنَّة، حتى الأحاديث القدسية لا يثبت لها ذلك، إنما هذا خاصٌّ بالقرآن الكريم.
القرآن الكريم يختص بالإعجاز، أي بأن الْخَلْق لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، قال الله عز وجل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: ٨٨]، أي: مُعِينًا، وليس ذلك موجودًا في أي كلام من كلام البشر، إنما هو في القرآن الكريم، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، بل ولا بعَشْر سورٍ منه، بل ولا بسورة منه، بل ولا بآية منه.
القرآن كاملًا سمعتم الآية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، عشر سور في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود: ١٣]، سورة في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: ٣٨]، آية في قول الله تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور: ٣٣، ٣٤]، حديث أيُّ حديثٍ، عجز العرب عن ذلك، أي: عن أن يأتوا بشيء من مثل القرآن، مع أنه قد تَوَفَّرَت لهم أساليب البلاغة والفصاحة، وصار الداعي لمعارضة القرآن عندهم قويًّا، فلما كان السبب الداعي قويًّا ولم يُوجَد مانع عُلِم أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله.
ولذلك تجد القرآن الكريم -سبحان الله!- لا يَمَلُّ الإنسان من قراءته، ولا من تكراره، وغيره يَمَلُّ من تكراره، ويَمُجُّه السمع، ويَثْقُل على اللسان، لكن القرآن الكريم لا يَخْلَقُ مع الترداد أبدًا، تجده طريًّا كلما قرأته.
ثم إذا كان الله تعالى قد فتح عليك وكان عندك نية وقصد صحيح في معرفة المعنى فكل قراءة تقرؤها يفتتح لك بها معنى غير الأول، جَرِّبْ تَجِدْ، هذا شيء معلوم، لكن هذا لمن؟ لمن عَلِمَ اللهُ منه صدق الطلب في معرفة المعنى، أما مَن أعرض عن ذلك فإنه لا يستفيد، لكن مَن علم الله منه صدق الطلب فإن الله يفتح عليه كلما قرأ القرآن من المعاني ما لم يكن سابقًا.
القرآن الكريم أنزله الله عز وجل وجعله مباركًا، مباركًا في أيش؟ مباركًا في تأثيره، مباركًا في ثوابه، مباركًا في آثاره.
مباركًا في تأثيره، يعني أنه مؤثر على القلب، ويلين القلب، ويكسبه خشية لله عز وجل؛ لأن الله قال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: ٢١]، سبحان الله! وهو جبل حصى يكون خاشعًا ذليلًا ويتصدع من خشية الله عز وجل، فما بالكم بالقلب لو كان القلب حيًّا؟ يكون من باب أولى، ولهذا قال ابن عبد القوي رحمه الله:
وَحَافِظْ عَلَى دَرْسِ الْقُرَانِ فَإِنَّهُ يُلَيِّنُ قَلْبًا قَاسِــــيًا مِثْلَ جَلْمَدِ

وما أكثر الذين يشكون قسوة قلوبهم اليوم لأسباب ليس هذا موضع ذكرها، ولكن إذا أحسوا بقسوة القلب فعليهم بالقرآن، نسأل الله أن يلين قلوبنا، عليهم بالقرآن، هذا من جهة التأثير.
من جهة التأثير أيضًا القرآن الكريم رُقْيَة من كل داءٍ، كل مرض فالقرآن الكريم رقية له، إي نعم، فالقرآن الكريم دواء له، دواء لكل مرض، أيّ مرض؛ الجسمي أو القلبي أو هما؟
طلبة: هما.
الشيخ: نعم، المرض القلبي؛ وهو الشبهة التي تَرِدُ على القلوب، أو إرادة السوء شفاؤها القرآن، المرض الجسمي العضوي شفاؤه القرآن، نزل قوم من الصحابة على قوم من العرب، نزلوا ضيوفًا، ولكن هؤلاء العرب لم يُضِيفُوا الصحابة، أَبَوْا أن يضيفوهم، تنحَّى الصحابة إلى جانب ونزلوا، فسلَّط الله على سيد العرب عقربًا فلدغته وآلَمَتْهُ، فقال بعضهم لبعض: ألا تنظرون إلى هؤلاء القوم لعل فيهم مَن يقرأ، فأتوا إلى الصحابة وقالوا: إن سيدهم لُدِغ، فهل فيكم قارئ؟ قالوا: نعم، فينا قارئ، ولكننا لن نقرأ عليه - على هذا المريض- إلا بقطيع من الغنم؛ لأن هؤلاء العرب لم يُكْرِمُوهم، فأرادوا أن يأخذوا حقهم منهم، قالوا: ولكم ذلك، فقام رجل من الصحابة على هذا اللديغ وجعل يقرأ عليه سورة الفاتحة حتى قام كأنما نُشِطَ من عقال، والسم قد سَرَى في جسمه، لكن زال هذا وطار، هذا تأثير ولَّا غير تأثير؟ هذا تأثير عجيب، وما أكثر ما نقرأ الفاتحة وغير الفاتحة والمريض يَتَلَبَّط في مرضه، لماذا والآية واحدة؟ لأنه -كما يقال- السيف بضاربه، السيف حديد قاطع، لكن إذا كان مع جبانٍ هل ينفعه أو لا ينفعه؟
طلبة: لا ينفعه.
الشيخ: تقولون هذا موافقةً لي ولَّا واقع؟
طلبة: واقع.
الشيخ: واقع، السيف مع جبان لا ينفعه، ربما إذا رأى العدو مُقْبِلًا عليه ألقى بالسيف وهرب، لكن بيد الشجاع ينفع، ويدافع عن نفسه ويقتل عدوه.
ولهذا يُذْكَر عن رجل كان الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقرأ عليه وكان به صرع من الجن، فيخرج الجني، ولما مات الإمام أحمد عاد الجني، فقام رجل يقرأ على هذا المصروع بما كان الإمام أحمد يقرأ به، ولكن الصارع أَبَى أن يخرج، وأجاب بأن الآية هي الآية، والقارئ غير القارئ.
فلا تظن إذا لم تجد تأثير القرآن مباشرة لا تظن أن القرآن غير مؤثِّر، ولكن القارئ غير مُؤَثِّر.
مبارك في آثاره، كيف ذلك؟ بماذا فتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها؟ بأيش؟ بالقرآن، أي بالعمل بالقرآن، فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا قال الله عز وجل: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِبالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: ٥٢]، فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بالقرآن حين كان القرآن باليد اليمنى، والسيف باليد اليسرى، والآن كثير من الممالك الإسلامية بيدها القانون الوضعي بدلًا عن القرآن الكريم، ولذلك كان التأخر والذل في الأمة الإسلامية بسبب عمل مَن ينتسبون إليه، فالذنب إذن في تأخر المسلمين اليوم ليس ذنب الإسلام ولكن ذنب المسلمين، هذا من آثار القرآن الكريم؛ أن مَن تَمَسَّك به فهو منصور، والشاهد ما سبق من سلفنا الصالح.
مبارك في ثوابه؛ الحرف الواحد فيه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وما أكثر حروف القرآن.
وبهذه المناسبة عرض عَلَيَّ في الرياض في الأسبوع الماضي إنسانٌ ورقة مكتوبًا فيها: الإعجاز العددي في القرآن، جدول ذكر فيه أن جميع حروف القرآن كلها تقبل القسمة إذا جُمِعَت على تسعة عشر، ولكن هذا افتراء على الله عز وجل ومناقض للواقع، ولا يجوز تداول هذه البطاقة؛ لأنه لا يمكن لإنسان أن يشهد أن الله تعالى تَكَلَّم بالقرآن بحيث تكون حروفه منقسمة على تسعة عشر، مَن يقول هذا؟! لكنه افتراء على الله عز وجل، ثم إن القرآن الكريم لا يمكن أن يقال: إنها تنقسم على تسعة عشر مع اختلاف القراءات، فمثلًا (تَبَيَّنُوا) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: ٦]، والقراءة الثانية: {فَتَثَبَّتُوا}، إذن اختلفَا، أتت الثاء بدلًا عن الباء؛ تثبتوا، وبدلًا عن النون، فاختلَّت القسمة.
كذلك في القرآن الكريم {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤]، اختلت، زاد حرف.
لكن هؤلاء المشغوفون بما يَدَّعُون أنه ذكاء وأنهم اطَّلَعُوا على ما لم يطلع عليه أحد يأتون بمثل هذه الخرافات (...) القرآن، هل القرآن جاء ليُحْسِن الناس العدد ويقسموه على تسعة عشر؟ لا والله، ولا يمكن أن ينزل هذا القرآن الكريم من أجل هذه المعجزة كما يقولون، مع أنها ليست معجزة، فاسدة باطلة.
أحببت أن أُنَبِّه على هذا؛ لأنه ربما تشيع؛ لأن الذي سألني عنها يريد أن يطبع منها الملايين ويوزعها على الناس، ويقول: انظروا للقرآن الكريم، نقول: هذا غلط، القرآن ما نزل لهذا المعنى، ولا يمكن أن يُرَاد به هذا المعنى، انتبهوا لمثل هذه الأمور التي تُنْشَر، قد تكون من ملحد كافر، أو فاسق فاجر يريد بها صَدَّ الناس عن المعنى الذي من أجله نزل القرآن.
قال الله عز وجل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِأي: ليتفكَّرُوا فيها ويُرَدِّدُوها بأفكارهم حتى يتبين لهم المعنى، فالقرآن الكريم لم ينزل لتلاوته لفظًا فقط، بل ولِتَدَبُّر معناه، ولا يمكن العمل به إلا بمعرفة معناه، ولا يمكن معرفة معناه إلا بتدَبُّرِه، إذن فالتكفير في معناه أمر واجب، يجب أن تتعلم معنى القرآن كما تتعلم معنى الآجرومية، أتعرفون الآجرومية؟ كتاب صغير في النحو، لا يمكن أن يستفيد منه الإنسان حتى يعرف معناه، كذلك أيضًا القرآن الكريم لا يمكن أن يستفيد الإنسان منه حتى يعرف معناه.
لو أن هناك كتابًا في الطب من أفصح الكتب وأنت لا تعرف المعنى فهل يمكن أن تستفيد منه؟ أجيبوا يا جماعة، لا يمكن، إذن لا يمكن أن تستفيد من القرآن حتى تعرف معناه، ولقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» ، وهذا يشمل التعلم اللفظي والتعلم المعنوي، ولهذا قال: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ.
وإذا شئت أن تعرف هذا فاقرأ آية من القرآن مع التدبر، واقرأها مع الغفلة، تجد الفرق العظيم بين هذا وهذا، لذلك أَحُثُّكُم أيها الإخوة على تعلُّم المعنى؛ معنى القرآن الكريم.
اقرؤوا كتب التفسير الموثوقة، واحذروا الكتب التي لا يُعْرَف مَن ألَّفها، أو التي عُرِف من ألَّفها بأنه منحرف، أو ما أشبه ذلك؛ لأن من المفسرين مَن حَرَّفَ القرآن ونقله إلى ما يعتقده هو لا إلى ما يدل عليه القرآن، فاحذروهم، وإذا لم تتمكنوا من هذا فاسألوا أهل العلم حتى تستفيدوا من القرآن الكريم.
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، ثانيًا: قال: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ، يتذكر أي: يَتَّعظ أصحاب العقول.
وانظر للفرق بين قوله: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، حيث عَمَّمَ فيها، وقوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ، حيث خَصَّ؛ لأنه لا يتذكر بالقرآن ويَتَّعِظ به إلا أصحاب العقول، كما قال عز وجل: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧].
فإذا قال قائل: إلى مَن نرجع في تفسير القرآن؟
فالجواب: نرجع إلى القرآن، نُفَسِّر القرآن بالقرآن، فإن لم نجد ففي السنة، فإن لم نجد فبأقوال الصحابة، ولا سيما المفسرون منهم، فإن لم نجد رجعنا إلى أقوال التابعين، أعني المفسِّرين منهم، كمجاهد بن جبر وغيره.
مثال تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: ١٧ - ١٩]، الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ١ - ٤]، والأمثلة كثيرة.
مثاله من السنة قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: ٢٦]، الْحُسْنَىيعني: الجنة، زيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل، فَسَّر ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أعلم الخلق بكتاب الله تعالى.
ومن ذلك قول الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: ٦٠]، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» ، مرتين أو ثلاثًا، ففسر القوة بالرمي؛ لأن الرمي أشد ما يكون فتكًا بالنسبة للأسلحة.
وإلى يومنا هذا الرمي هو قوة، كان الناس في الأول يرمون بالسهام بالقوس، الآن يرمون بأيش؟
طلبة: بالصاروخ.
طالب آخر: بالمدفع.
الشيخ: لا، المدفع الآن ليس بشيء، بالصواريخ والقنابل، فلا تظن أن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» خاصًّا بما كان في عهده، بل هي عامة فيما يحدث إلى يوم القيامة.
على كل حال، نرجع في تفسير القرآن إلى تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ولا نعدل عن أقوال الصحابة إلى تفسير المتأخِّرين أبدًا، خصوصًا في العبادات، أما في الأمور التي تحدث ويكون في القرآن إشارة لها فهذه قد لا يَرِدُ عن السلف فيها تفسير، ولكن تُفَسَّر حسب الوقت؛ لأن هناك أشياء من الأمور الكونية الفضائية والأرضية لم يتكلم فيها السلف، ولكن تكلم فيها المتأخِّرون، فنقول: يُرْجَع إلى قول المتأخرين في هذا؛ لأن السلف لم يكونوا يعرفون ذلك.
أما مسائل العبادة والمعاملات وما أشبهها فإنه يُرْجع في ذلك إلى تفسير الصحابة على كل حال.
ثم بعد ذلك المرتبة الرابعة..
طلبة: التابعون.
الشيخ: لا، كبار التابعين، أو كبار المفسرين من التابعين، ومرتبتهم أدنى بكثير من مرتبة الصحابة، أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن يرزقنا تَعَلُّمَه لفظًا ومعنى، والعمل به، إنه على كل شيء قدير.
هذه المقدِّمات قد تكون أفيد مما لو شرحنا أو فَسَّرْنَا القرآن الذي هو محل الدرس اليوم، ولكن -إن شاء الله تعالى- أمامنا الأيام.
طالب: شيخ، أثابكم الله، إذا جلس جماعة -مثلًا- وقرأ أحدهم، وكلهم منصت، ويتدبرون القرآن معًا، هل لهم الأجر مثل أجر القارئ؟
الشيخ: يقول: إذا اجتمع جماعة على كتاب الله يستمعون القرآن وينصتون له فهل لهم أجر القارئ؟ الجواب: نعم، لهم أجر القارئ، قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: ٢٠٤]، ولذلك يُشْرَع لهم إذا سجد القارئ سجود التلاوة أن يسجدوا معه، فحكمهم حكمه.
طالب: قلنا: الحائض تقرأ القرآن لمصلحة..
الشيخ: أو حاجة.
الطالب: أو حاجة، هل تمس القرآن؟
الشيخ: لا، القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولكنه ليس فيه منع من قراءة القرآن، ممكن أن تمسك المصحف بقفازين أو من وراء ثوب.
طالب: أثابكم الله، هل نأخذ منه أن الاستماع له نفس الحكم؟
الشيخ: هل نأخذ؟
الطالب: هل نأخذ أن الاستماع الذي يستمع له نفس أجر القارئ، هل نأخذ منه مشروعية ما يُفعل في بعض الدول من أنهم يُشَغِّلون مُسَجِّلًا يوم الجمعة ويجلسون يستمعون؟
الشيخ: لا، هذا يسأل يقول: هل للمستمعين إلى التسجيل أجر؟ فالجواب: لا، ليس لهم أجر القراءة؛ لأن هذا حكاية صوت قارئ قد يكون ميتًا وليس قراءة، ولهذا لا (...) الأذان من مُسَجِّل، كما يفعل بعض الناس، في بعض الأمكنة عنده مُسَجِّل إذا وقت الأذان فتح الْمُسَجِّل للمؤذن، هذا غلط عظيم، ولا ينفع.

***

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم.
البسملة آية من كتاب الله، يعني أن الله عز وجل أنزلها كما أنزل باقي القرآن، فهي كلام الله عز وجل، تُفْتَتح بها كل سورة من الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس)، إلا (...) فإنها لم تنزل لافتتاحها، وليست البسملة من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها، وعلى هذا فلا تُحْسَب من آياتها.
الفاتحة -مثلًا- افتُتِحَت بالبسملة، والبسملة ليست منها، بل هي آية مستقلة، وأول الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والدليل على هذا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل قال في الحديث القدسي: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَقَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِقَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِقَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُقَالَ اللَّهُ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَقَالَ اللَّه: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» ، فبدأ بـالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ويدل لهذا أيضًا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يجهر بها –أي: بالبسملة- في القراءة الجهرية، ولو كانت من الفاتحة لجهر بها كسائر آياتها.
ويدل لهذا أن الله تعالى قسمها بينه وبين عبده نصفين، فلنقرأ ثلاث آيات لله، وثلاث آيات للعبد، وواحدة بينهما، الثلاث الآيات لله هي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٢ - ٤]، الثلاث للعبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، المشتركة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فتجد هذه المشتركة تجدها هي النصف، وهي بين العبد وبين الله نصفين، هي النصف من بين سبع آيات.
فإذا قال قائل: نحن نجد في المصحف أن البسملة قد رُقِّمت على أنها من آياتها، وأن اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْقد جُعِلت آية واحدة؟
فالجواب: أن هذا على رأي بعض العلماء، وكأن الذين طبعوا المصحف أَوَّل ما طبعوه طبعوه على هذا الرأي، واستمر الناس عليه.
على أنني وجدتُ مصحفًا مطبوعًا فيه أول آية الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، والآية السابعة صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، والبسملة لم تُرَقَّم، مصحف مطبوع، وهذا هو المطابق للصواب.
مما يدل على ذلك أيضًا أن الآيات لا تكون متناسبة في الطول والقصر إلا إذا قسمنا الآية الأخيرة قسمين؛ لأنك إذا قلت: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَصارت الآية هذه طويلة بالنسبة لبقية الآيات، فلا تناسبه.
فعلى كل حال القول الراجح المتعيِّن أن أول الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وأن البسملة ليست منها كسائر السور.
بقينا البسملة معمول مجرور بالباء؛ لأن كل اسم مجرور بالباء فإنه معمول على كل حال، ويش معنى معمول؟ يعني: لا بد له من عامل محذوف، ولهذا قال ناظم الْجُمَل:
لَا بُدَّ لِلَّجَــارِ مِـــنَ التَّعَلُّقِ بِفِعْلٍ اوْ مَعْنَاهُ نَحْوُ مُرْتَقِي

البسملة معمولة لعامل محذوف، أعطيتكم الآن قاعدة ما هي؟ كل اسم مجرور فلا بد له من عامِل، فأين عامل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ نقول: العامل محذوف، يُقدَّر فعلًا متأخرًا مناسبًا للمقام؛ يُقدَّر فعلًا، ثانيًا: متأخِّرًا مناسبًا للمقام، أنا أريد أن أقرأ فأقول: باسم الله، قَدِّر العامل؟ أقرأ، التقدير: باسم الله أقرأ.
لو سألت: لماذا نُقَدِّرُه فعلًا ولا نُقَدِّره اسمًا، فنقول: باسم الله قراءتي؟
فالجواب: الأصل في العمل هو الأفعال، ولذلك لا تجد اسمًا عاملًا إلا بشروط، نحن الآن نعطيكم ضوابط يا إخواني، نقول: قَدَّرْنَاه فعلًا لماذا؟ لأن الأصل في العامل أو في العمل أن يكون فعلًا، ودليل ذلك أنه ما من اسم يكون عاملًا إلا بشروط.
لماذا قَدَّرْنَاه متأخِّرًا ولم نقل: أقرأ باسم الله؟ لفائدتين:
الفائدة الأولى: التَّبَرُّك ببداءة الكلام باسم الله.
الثانية: الحصر، يعني: باسم الله لا باسم غيره؛ لأنه إذا تَقَدَّم المعمول على العامل كان ذلك دليلًا على الحصر، يعني الاختصاص، فكأن القارئ يقول: باسم الله أقرأ لا باسم غيره.
لماذا قَدَّرْنَاه فعلًا مناسبًا؟ لأنه أَدَلُّ على المقصود، فمثلًا حين نريد أن نقرأ، نقول: التقدير: باسم الله أقرأ.
لو قال قائل: لماذا لا نقول: باسم الله أبتدئ؟
قلنا: لأن كلمة (أبتدئ) صالحة لكل فعل ابْتُدِئَ به، وإذا قلت: أقرأ، صار خاصًّا، وهو أدل على المقصود، هذا تقرير إعراب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِكلما أَتَتْكَ.
عندما يُقَدَّم الغداء تقول: باسم الله، كيف نُقَدِّر؟
طلبة: باسم الله آكل.
الشيخ: آكل؟ لا، فيه شيء أخص، أَتَغَدَّى أو آكل الغداء؛ لأنه أخصّ.
أردت أن تشرب تقول: باسم الله أشرب، أردت تدخل المسجد تقول: باسم الله أدخل، وهلم جرًّا.
أما قولنا: (باسم الله) فالمراد بكل اسم لله، وإنما حملناه على العموم؛ لأن المفرد إذا أُضِيف صار للعموم؛ أي: أبتدئ بكل اسم من أسماء الله، الرحمن، أي: ذو الرحمة الواسعة، الرحيم، أي: ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: ٤٣].
حمقال المفسِّر: (الله أعلم بمراده بهحمهذان حرفان هِجَائيَّان؛ أحدهما حاء، والثاني ميم، لا إعراب لهما.
وهل لهما معنى؟ المؤلف –المفسِّر- يقول: (الله أعلم بمراده به)، إذن لا ندري هل لها معنى أو لا؟ ولا ندري ما المراد بالمعنى؟ فموقفنا من هذا أيش؟ التفويض، الله أعلم، وهكذا يُقَالُ في كل حرف هجائي ابتُدِئَت به السورة، فيه غير (حم)؟ فيه؛ الم، الر، ن، ق، ص، وما أشبهها.
فالمؤلف رحمه الله يقول: ما لنا ولتفسيره، الله أعلم بمراده به، قد يكون أراد معنى، وقد لا يكون أراد معنى، وقد يكون أراد معنى تدل عليه السورة، وقد يكون أراد معنى آخر.
ولكن القول هذا ضعيف، والصواب أن نقول: لا معنى له، (لا معنى له) ليس معناه أنه حَشْوٌ لا فائدة منه، لا، لا معنى له ذاتيًّا، بدليل قول الله عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف: ٢]، وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: ٣]، وقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]، ثلاث آيات، اللسان العربي هل وُضِعَ فيه حروف هجائيَّة لها معنى؟ لا، اللسان العربي وُضِعَت فيه حروف هجائية لتركيب الكلام منها، وهي في اللغة العربية ثمانية وعشرون حرفًا.
عندما تقرأ في اللوح: أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، ويش معناها؟ ليس لها معنى، إنما هي حروف تُكَوَّن منها الكلمات، فإذا كان كذلك والقرآن الكريم نزل بلسان عربي فإننا نجزم بأنه ليس لهذه الحروف معنى، كيف نجزم؟ أعوذ بالله! وإذا كان الله قد أراد بها شيئًا؟ نقول: لا يمكن أن يريد بها شيئًا وهو نازل باللسان العربي، واللسان العربي لا يجعل لهذه الحروف الهجائية معنى، نحن نجزم لقوله: عَرَبِيٍّ.
قوله عز وجل: طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه: ١، ٢]، هل (طه) اسم من أسماء الرسول؟ لا، (طه) مثل (الر)، ومثل (حم)، حرفان هجائيَّان ليس لهما معنى، إذا قال إنسان: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَالخطاب، نقول: إذن اجعل (ن) من أسماء الرسول؛ لأن الله قال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: ١، ٢]، ولا قائلَ به.
إذا قال قائل: ما الفائدة من هذه الحروف الهجائية إذا لم يكن لها معنى في حد ذاتها؟
أقول: الفائدة أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء الذين سبقوه ولحقوه، الفائدة التنبيه على أن هذا القرآن الكريم الذي عجز الناس أن يأتوا بمثله لم يأتِ بحروف جديدة فيحتج الناس ويقولوا: هذه حروف ما نعرفها، جديدة، القرآن الكريم جاء بالحروف المعروفة عند المخاطبين، ومع ذلك أعجزهم، قال شيخ الإسلام وغيره: ولذلك لا تكاد تجد سورة مُفْتَتَحَةً بهذه الحروف الهجائية إلا وجدت بعدها ذِكْرَ القرآن.
قل لي يا أخي، اذكر ثلاث سور مُفْتَتَحَةً بالحروف الهجائية بعدها ذِكْر القرآن؟
طالب: (...).
الشيخ: نعم، الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة: ١، ٢]، هذه واحدة.
طالب: مريم.
الشيخ: مريم ما فيها ذكر القرآن، لا تَبْغ تدور؛ لأن الكتاب (...). مَن يعرف الثانية؟
طالب: الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ.
الشيخ: البقرة؟
الطالب: نعم.
الشيخ: ذكرها الأخ.
طالب: طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى.
الشيخ: طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى.
طالب: هذه السور المجموعة حم.
الشيخ: إي، صحيح، حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، الباقي على هذا قِيسُوه، فيه بعض السور قليلة ما فيها ذِكْر القرآن، لكن فيها ما يختص به القرآن، كعلم الغيب، مثل: الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم: ١ - ٣]، هذا ما فيه ذِكْر القرآن لكن فيه شيء يختص به القرآن، وهو علم الغيب في المستقبل.
نقول: حمما هو التفسير الصحيح لها؟
نقول: ليس لها معنى في حد ذاتها، ولكن لها مغزى، وهذا الذي قَرَّرْنَاه هو الذي ذكره مجاهد رحمه الله إمام المفسرين في عهده، نقله عنه ابن كثير في تفسيره.
قال: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ، الواو حرف قسم، وفَسَّره بأنه القرآن؛ لأن الله تعالى سَمَّى القرآن كتابًا، فقال: الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ، وسُمِّيَ كتابًا لأنه كُتِبَ في اللوح المحفوظ، ولأنه كُتِبَ في المصاحف التي بأيدي السَّفَرَة الكرام البررة، ولأنه كُتِبَ في المصاحف التي بأيدينا، ثلاثة أوجه؛ كُتِب في اللوح المحفوظ، ثانيًا: في صُحُف الملائكة، ثالثًا: في صُحُفِنا التي بأيدينا.
وقوله: الْمُبِينِيقول الشارح: (الْمُظْهِر طريقَ الهدى وما يُحْتَاج إليه من الشريعة)، الْمُبِينِمن: أَبَانَ الشيء؛ إذا أظهره، فمعنى كونه مُبِينًا أنه مُظْهِر للحق مُوَضِّحٌ له، بل لكل ما يحتاج الناس إليه، الْمُبِينِمن (أبان) أي: أظهر، يعني أن القرآن أظهر كل شيء يحتاج الناس إليه في دينهم ودنياهم.
وقيل: المراد بـالْمُبِينِالبَيِّن.
وأيهما أعم؛ البَيِّن أو الذي بَيَّنَ الشيء؟ الأعم أنه مُظْهِر للحق؛ لأنه لا يُظْهِر الحق إلا إذا كان هو ظاهرًا، وعلى هذا ففسِّرِ المبين بأنه الْمُظْهِر، وإن فسَّرْتَه بهما فلا بأس، فقلت: إنه بَيِّنٌ مُبِينٌ؛ لأن الكلمة إذا احتملت معنيين -وهذه قاعدة- الكلمة إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر وليس أرجح منه فإنها تُحْمَل عليهما، أعيد ها القاعدة مرة ثانية: إذا احتمل اللفظ معنيين متساويين لا ينافي أحدهما الآخر حُمِل عليهما جميعًا.
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، إِنَّا جَعَلْنَاهُيقول: (أَوْجَدْنَا الكتاب قُرْآنًا عَرَبِيًّا: بلغة العرب، لَعَلَّكُمْيا أهل مكة تَعْقِلُونَتفهمون معانيه).
قوله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَاهُ، الضمير -ضمير الفاعل- يعود على الله عز وجل، وضمير المفعول يعود على القرآن، ومعنى جَعَلْنَاهُ-على كلام المؤلف- أوجدناه قرآنًا عربيًّا، والصواب أن المعنى: صَيَّرْنَاه قرآنًا عربيًّا، أي: صَيَّرْنَاه بلغة العرب.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَأي: تفهمون، والخطاب في قوله: لَعَلَّكُمْعلى كلام الْمُفَسِّر يعود إلى أهل مكة، والصواب أنه يعود إلى العرب كلهم؛ لأن العرب هم أهل مكة وغيرهم، فيكون المعنى: صَيَّرْنَاه بلغة العرب لتفهموه أيها العرب، انتهى الكلام على الآيات من حيث اللفظ.
المعنى: أن الله تعالى أقسم بالقرآن أنه جعله باللغة العربية من أجل فَهْمِه، فيُسْتَفَاد من هذه الآيات فوائد، منها: جواز القسم مع تأكد صحة الْمُقْسِم بدون القسم، يعني جواز أن الإنسان يقسم على الشيء مع أن قوله مقبول على كل حال.
وجه الدلالة: أن الله عز وجل أقسم وقوله مقبول على كل حال، وصدق بلا يمين.
حينئذ يتولَّد من هذا: كيف يُقْسِم الله عز وجل على الشيء وهو الصادق بدون قسم؟
فنقول: لفائدتين؛ الفائدة الأولى: بيان أهمية هذا الشيء، وأنه جدير بأن يُقْسَم عليه.
والثانية: أن القسم من فصاحة الكلام في اللغة العربية، فإذا كان من فصاحة الكلام فالقرآن نزل بأيش؟ باللغة العربية، فيكون هذا مطابقة لأسلوب اللغة العربية.
يَرِد على هذا إشكالٌ، على هذا القسم بالقرآن يَرِد عليه: كيف أقسم الله بالقرآن مع أنه لا يجوز القسم بغير الله؟
والجواب على هذا أن القرآن صفة من صفات الله؛ لأنه كلام الله، والقسم يجوز بالله وبصفة من صفاته، فزال الإشكال، أفهمتم الآن؟
ما هو الإشكال الوارد؟ كيف يقسم الله بالقرآن والقسم لا يكون إلا بالله عز وجل؟
والجواب: أنه يجوز الإقسام بصفات الله عز وجل؛ لأنها مُعَظَّمَة، والقرآن من صفات الله؛ لأنه كلام الله عز وجل.
من فوائد هذه الآية: بيان عظمة القرآن؛ لأن الله لا يقسم إلا بشيء عظيم، بل إن القسم نفسه -كما قال مَن فسَّره- تأكيد الشيء بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ بصفة مخصوصة بأحد حروف القسم، اضبطوا القسم: تأكيد الشيء بذِكْرِ مُعَظَّمٍ بصيغة مخصوصة بأحدِ حروف القسم، وحروف القسم ثلاثة: الواو، والباء، والتاء.
من فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن مُبِين؛ أي: مُظْهِر، لأيش؟ مُظْهِر للحق ولكل ما يحتاج الناس إليه، بل هو مُظْهِر حتى للباطل، مُبَيِّن للباطل، مُحَذِّر منه، بل إنه تِبْيَان لكل شيء، كل شيء فالقرآن مُبَيِّنُه، كل شيء؟ نعم كل شيء.
فإذا قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى ذَكَرَ أشياء لا مجال للعلم فيها، فأين بيانها؟
قلنا: بيانها في قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] فيما يتعلَّق بالصفات؛ لأن بيانها على وجه التفصيل لا تحتمله العقول، فكان من الحكمة ألَّا تُفَصَّل، وإلا فهو تبيان لكل شيء.
ذُكِرَ أن أحد العلماء كان في مطعم، وكان حوله رجل من النصارى، فاستغلّ النصراني الفرصة ليُلْقِي على هذا العالِم سؤالًا يتحداه به، فأتى إليه وقال له: أيها الشيخ، قال: نعم، ماذا تريد؟ قال: القرآن كتابكم يقول: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩]، فكيف نصنع هذه السَّلَطة؟ تعرفون السَّلَطَة؟ كأن بعضكم ما يعرفها.
طالب: معروفة.
الشيخ: معروفة؟ ما هي؟ على كل حال السلطة هي الزَّلَطة، والسين والزاي تتعاوران، أي: كل واحد منهما يستعير الآخر.
كيف نصنع هذه السلطة؟ أين هذا في القرآن؟ وكان العالِم المسلم ذكيًّا، قال: هذه موجودة في القرآن، موجود كيف نصنعها، قال: أين هو؟ فنادَى الطبَّاخ وقال: تعالَ، كيف صنعت هذا؟ فجعل الطبَّاخ يشرح له، فقال: هكذا جاء في القرآن، قال: كيف؟ قال: إن الله قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣]، فأحالنا فيما لا نعرف على مَن يعرف، وهذا بيان، لم نتحيَّر الآن، لم نتحير في معرفة كيف تُصْنَع هذه السلطة.
لو قال لنا قائل: القرآن تِبْيَان لكل شيء، كيف نصنع هذا التليفون؟ هل في القرآن وَصْف لصناعته؟ كيف نصنع هذا التليفون؟ أين ذِكْرُه في القرآن؟
نقول: الحمد لله، الله عز وجل أحالنا إلى سؤال مَن يعرف إذا كنا لا نعرف، وهذا بيان، ما أوقفنا متحيِّرِين.
إذن وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، في هذه الآية دليل على أن القرآن مُبَيِّن لكل شيء، ولكن -يا أيها الإخوة- القرآن يحتاج إلى تدبُّر، بدون تَدَبُّر لا يمكن أن تهتدي، ثم اعلم أنك كلما أَمْعَنْتَ وتعمقت في تدبُّر القرآن فتح الله لك من أبواب المعرفة ما لم يكن من قبل، وصرت تستنبط من الآية الواحدة من الأحكام ما لا يستنبطه غيرك، فاحرصوا على التدبر، ويأتي -إن شاء الله- بقية الفوائد في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
طالب: أحسن الله إليك، سياق الآيات التي فيها فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِإنما كان في رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يصح بها الاستشهاد على..؟
الشيخ: على العموم، نعم يصح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
طالب: شيخ، بعض طلاب العلم يا شيخ يستنبط دائمًا من الآيات؟
الشيخ: طيب، بس بشرط أن يكون هذا الاستنباط تحتمله الآية، يعني بعض الناس يستنبط من الآيات ما لا تحتمله الآيات، أرأيتم أول ما خرج وصول البشر إلى القمر، ولعله حصل قبل أن يُمَيِّز أكثركم، أكثركم شباب -والحمد لله-، لما حدثت هذه الحادثة وقالوا: إن البشر وصلوا إلى القمر، وأخذوا منه عينة وجاؤوا بها إلى الأرض، وادَّعوا أنها من القمر، أحجار سوداء رأيناها، أتدرون ماذا قال الناس؟ قالوا: هذا موجود في القرآن، استمع يا ولد، بأي مكان؟ قال: إن الله قال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن: ٣٣]؛ أي: بعِلْم، وهؤلاء وصلوا إلى أقطار السماوات بأيش؟ بالعِلْم، قالوا: الآية هذه تدل على هذا.
لكن هذ التفسير مُحَرَّم، وقول على الله، وكذب على الله، الآية في سياق التحدي: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، وهل يمكن أن يتحدى الله عز وجل أحدًا بما يستطيع؟ لا يمكن، التحدي معناه أن المخاطَب لا يستطيع، هذه واحدة.
ثانيًا: الآية إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فبدأ بالسماوات، فهل هؤلاء يمكن أن ينفذوا من أقطار السماوات؟ لا يمكن، إذا كان أفضل رسول في البشر وأفضل رسول في الملائكة لم يدخلَا السماء الدنيا إلا باستفتاح وإذْن، كيف هؤلاء؟ فهؤلاء إن نفذوا من أقطار الأرض لم ينفذوا من أقطار السماوات.
ثالثًا: قال الله عز وجل بعد قوله: لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، قال: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ [الرحمن: ٣٥]، وهل أُرْسِلَ على هؤلاء شُوَاظ من نار ونحاس؟ لا، فتفسير القرآن بما لا يحتمله هذا مُحَرَّم؛ لأن المفسِّر يشهد أن الله أراد كذا.
ومثل قول بعضهم: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: ٨٨]، قال: هذا دليل واضح على أن الأرض تدور، والمسألة هذه حصل فيها معركة؛ هل الأرض تدور أو ما تدور؟ تدور أو ما تدور، قصدي أحكي الخلاف، صار فيها معركة كثيرة، وكُتِبَ في ذلك منشورات في الصحف ورسائل صغيرة إنكارًا وتأييدًا، فجاء هذا الرجل الْمُتَعَيْلِم قال: هذا في القرآن: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، قيل: هذا يوم القيامة، قال: يوم القيامة ما يمكن يرى الشيء إلا على حقيقته، لا يراه على غير حقيقته، فقيل له جوابًا على هذا: ألم تقرأ قول الله عز وجل: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج: ١، ٢]، شوف تَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وهذا رؤية الشيء على غير حقيقته، وهو ممكن، فالآية وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةًمتى؟ يوم القيامة، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ؛ لأنها تكون هباءً.
هذا أيضًا من الغلط وتحميل القرآن ما لا يحتمل.
طالب: ما في القرآن من الكلمات ما ليس بعربي؟
الشيخ: لا، أبدًا، كل ما في القرآن عربي، لكن بعضه من صميم اللغة العربية، وبعضه مُعَرَّب، أصله غير عربي ولكنه عُرِّب، وإذا عُرِّب صار عربيًّا، أرأيت أنت إذا أخذت الجنسية في بلد تكون منهم ولَّا لا؟ تكون منهم وأنت في الأصل من غيرهم، فليس في القرآن ما ليس بعربي.
فإذا قال قائل: فيه سندس، إستبرق، وما أشبه ذلك؟ فالجواب: إن هذه عُرِّبَت فصارت من كلام العرب.
طالب: شيخ -أحسن الله إليك- الآيات التي أقسم الله بالنجم والقمر والشمس، بعضهم يُعَلِّل بأن الله يقسم بما شاء، أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله، فهل هذا التأويل صحيح؟
الشيخ: هذه صحيح، لله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا أن نقسم إلا به.
الطالب: ولنا في هذه الآية أن ..
الشيخ: لا، هذه الآية قسم بصفات الله، ما فيها إشكال.

***

طالب: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ [الزخرف: ١ - ٨]
الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله عز وجل: حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، ما هو القول الراجح في حم؟
طالب: أنها ليس لها معنى مُعَيِّن، وأن لها مغزى للإعجاز القرآني.
الشيخ: السؤال: ما هو القول الراجح فيها؟
الطالب: ليس لها معنى.
الشيخ: ليس لها معنى في حد ذاتها، ما هو الدليل على أنه ليس لها معنى في حد ذاتها؟
طالب: لأن الله خاطبنا بالقرآن الذي هو أُنْزِل بلسان عربي مُبِين، والعرب لم تستعمل الحروف في معنى مُعَيَّن.
الشيخ: لأن الله أنزل القرآن بلسان عربي مُبِين، وهذه الحروف الهجائية ليس لها معنى في اللغة العربية، تمام.
الطالب: إي نعم.
الشيخ: وهذا قول مجاهد بن جبر رحمه الله إمام الْمُفَسِّرين في التابعين.
الواو في قوله: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِما معناها؟
طالب: الواو للعطف.
الشيخ: للعطف؟ خطأ.
طالب: للقسم.
الشيخ: الواو للقسم، القسم يحتاج إلى مُقْسِم ومُقْسَم به ومُقْسَم عليه، مَن الْمُقْسِم؟
طالب: الْمُقْسِم الله عز وجل.
الشيخ: المقسِم هو الله، والْمُقْسَم به؟
الطالب: الكتاب.
الشيخ: الكتاب وهو القرآن، والْمُقْسَم عليه؟
طالب: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.
الشيخ: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، بارك الله فيك. حروف القسم؟
طالب: حروف القسم الواو والباء والتاء.
الشيخ: ثلاثة؛ الواو والباء والتاء، مثال الواو؟
طالب: قوله تعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ.
الشيخ: نعم، كقوله تعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، والواو هي أكثر ما يُسْتَعمل في القسم، الباء؟
طالب: كقول القائل، كما جاء في الأحاديث: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ» .
الشيخ: (والذي)، ما أريدها، أنا أريد الباء.
الطالب: كقول القائل: باللهِ الذي قلت لك هو حق.
الشيخ: نعم، أقسم بالله إن هذا حق، التاء؟
طالب: قوله تعالى: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: ٥٦].
الشيخ: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، تمام. الْمُبِينِما معناها؟
طالب: الْمُظْهِر للحق والباطل وكل شيء.
الشيخ: الْمُبِين لكل شيء يحتاج إلى بيان من أمور الدين والدنيا، تمام، هل لهذا القول الذي قلته شاهد في القرآن؟
طالب: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.
الشيخ: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، بارك الله فيك.
قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، هذه تكلمنا عليها، جَعَلْنَاهُ؟
طالب: صَيَّرْنَاه.
الشيخ: صَيَّرْنَاه، وما معنى جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا؟
طالب: أي: صَيَّرْنَاه باللغة العربية.
الشيخ: أي: صَيَّرْنَاه باللغة العربية، تمام، قوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَمَن يُبَيِّن لنا معنى (لعل)؟
طالب: العرب.
الشيخ: لا، (لعل) أيش معناها؟
طالب: رجاء.
الشيخ: غلط.
طالب: (لعل) هنا المراد بها التعليل.
الشيخ: (لعل) للتعليل، أي: من أجل؟
الطالب: أن تعقلوا.
الشيخ: أن تعقلوا، طيب، والمراد بالعقل هنا؟
الطالب: المراد به عقل الرشد والفهم.
الشيخ: لا، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَعقلَ الفهم؛ لأجل أن تفهموه.
ويشبه من هذا قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: ٤].
من فوائد هذه الآية: أن هذا القرآن الذي أعجز العرب من الحروف التي يُرَكِّبُون منها كلامهم، ومع ذلك أعجزهم.
ومن الفوائد: جواز تأكيد الخبر بالقسم ولو كان الْمُخْبِر لا يحتمل خَبَرُه الكذب، وجه ذلك أن الله تعالى أقسم مع أن كلامه لا يحتمل الكذب، ولكن هذا من أجل أهمية الْمُقْسَم عليه.
ومنها: فضيلة القرآن الكريم وعِظَمه؛ لأن الله أقسم به، ولا يُقْسَم إلا بالشيء الْمُعَظَّم.
ومنها: أن القرآن الكريم مكتوب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ومكتوب في الصحف التي بين أيدينا.
ومنها: أن القرآن الكريم مُبَيِّنٌ لكل ما يحتاج إلى البيان؛ لقوله: الْمُبِينِ، ولكن هل هذا البيان حاصل لكل أحد؟ اسمع للجواب: لا، ليس حاصلًا لكل أحد، من الناس مَن يفهم من القرآن أشياء كثيرة، ومن الناس مَن هو دون ذلك، ومن الناس مَن لا يفهم شيئًا، الأقسام ثلاثة: من الناس مَن يفتح الله عليه فيفهم من الآية الواحدة عشرات المسائل، ومن الناس مَن هو دون ذلك، ومن الناس مَن لا يفهم شيئًا.
ولهذا لما سُئِل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشيء؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلينا بشيء إلا فَهْمًا يؤتيه الله تعالى مَن شاء في القرآن، وإلا ما في هذه الصحيفة ، وإنما سئل عليٌّ عن ذلك لأنه أُشِيعَ في زمنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عهد إليه بالخلافة، وقال: أنت الخليفة من بعدي، فَبَيَّن -رضي الله عنه- أن ذلك لم يكن.
والشاهد من هذا الأثر قوله: إلا فهمًا يؤتيه الله من شاء من عباده، ولذلك ترى بعض العلماء إذا تكلَّم على الآية مستنبطًا فوائدها يأتي بالعجب العجاب، ومن أبلغ ما قرأت ما يحصل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم؛ فإن الله تعالى يفتح عليهما من فَهْم القرآن ما لا يكون لغيرهما.
ومن الناس مَن فَهْمُه دون ذلك، لكن درجات، ومن الناس مَن لا يفهم شيئًا، دليل الأخير قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة: ٧٨]، يعني: إلا قراءة، جمع أُمْنِيَّة، ومنه قول الشاعر في أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَوَارِدِ

(تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ) ويش معناها؟ أي: قرأ كتاب الله؛ لأن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قُتِل شهيدًا في داره وهو يتهجد ويقرأ القرآن.
هل الذي لا يفهم يقدح في كون القرآن تبيانًا لكل شيء؟ لا؛ لأن القرآن في حد ذاته تبيان لكل شيء، كما أن الجبان الذي بيده سيف بتَّار لا يقدر فيقتل به، وليس هذا عيبًا في السيف.
من فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن الكريم حادث، يعني أنه بإرادة الله عز وجل؛ لقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، والله قادِر على أن يجعله بلغة أخرى لكن صَيَّره باللغة العربية، ومعلوم أن العرب حادثون أو أَزَلِيُّون؟ حادثون، فيكون ما نزل بلغتهم حادثًا، وهذا هو الحق؛ أن كلام الله عز وجل حادث، بمعنى أنه يتكلم متى شاء، متى شاء يتكلم، ومتى شاء لم يتكلم، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نَسْيَانٍ» .
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء، فيما شاء، كيف شاء.
قلنا: إن كلام الله تعالى حادث، المعنى أنه يُحْدِث من كلامه ما شاء، ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم بكلام حقيقي متى شاء، فيما شاء، كيف شاء.
ألم تعلموا أن الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري يقولون: إن الله ما يتكلم متى شاء؟ أبدًا، ليش؟ قال: لأن الكلام معنى قائم بنفسه أَزَلِيّ، لكنه يُحْدِث أصواتًا يخلقها متى شاء فتُسْمَع، فيرون أن الكلام لا يتعلق بمشيئته، بالله عليكم أيهما أكمل؛ من يتكلم بمشيئته ومتى شاء وكيف شاء، ومن لا يستطيع هذا؟ الأول، لكن أَبَتْ بدعتهم إلا أن يقولوا (...)، وقد ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابًا سَمَّاه التسعينية بيَّن بطلان هذا القول من تسعين وجهًا، رحمه الله وجزاه عن أمة محمد خيرًا.
من فوائد هذه الآية: أن كون القرآن باللغة العربية مَنْقَبَةٌ كبرى للعرب؛ أن يكون القرآن العظيم نزل بلغتنا؛ لقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.
فإذا قال قائل: هذه عصبية وحَمِيَّة للعرب، ويفتخر بها العرب الْمُلْحِدون، فما الجواب؟ لأن هذا مشكل، العرب الْمُلْحِدُون الذين يبنون الولاء والبراء على القواميس العربية يفخرون بهذا.
فنقول: من كان كافرًا فلا فخر ولو كان من صميم العرب، الدليل: أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنزل الله في حقه سورة كاملة تُتْلَى في الصلاة وفي المساء وفي كل مكان مما يُتْلى فيه القرآن إلى يوم القيامة، في مدحه أو ذَمِّه؟ في ذَمِّه، وهو من صميم العرب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، فالعروبة لا تجزي شيئًا مع الكفر، لكن إذا اجتمع الدين والدنيا فما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا، إذا صار مسلمًا وعربيًّا.
من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الحجة لا تقوم إلا بالفهم، أن الحجة لا تقوم على العباد إلا إذا فهموها؛ لقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، والعقل هنا بمعنى الفهم، فلو تُلِيَ القرآن على رجل أعجمي لا يدري معناه ولم يُقَل له: هذا كلام الله، فإنه لا حجة قائمة، ويدل لهذا قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: ٤]، اسمع يا رجل، أفهمت الآن؟ هذه مسألة عظيمة؛ الحجة لا تقوم على العباد إلا بفهمها ومعرفة معناها، وإلا فأي حجة في رجل يتكلم كلامًا لا نفهمه؟ لا حُجَّةَ، ولذلك لو قام أعجمي أمامنا ونحن عرب لا نعرف لغته وتكلم بأفصح ما يكون في لغته، أنفهم شيئًا؟ أبدًا، فلا بد من فهم الحجة.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول الله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: ١٩]، ولم يقل: ومَن فهمه؟
فالجواب أن نقول: مَنْ بَلَغَمُقَيَّد بالنصوص الأخرى الدالة على أنه لا بد من الفهم، أو يقال: وَمَنْ بَلَغَمن العرب الذين يفهمونه ..