تفسير سورة الزمر - 1
مدة الملف
حجم الملف :
83754 KB
عدد الزيارات 2646

عناصر المادة :
تفسير الآية (1)
تفسير الآيات (2-4)

تفسير الآية (1)
00:00:28

الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا [الزمر: ١ - ٣].
الشيخ: الأحسن تقول: أَوْلِيَاءَتقف عليها، الأحسن الوقوف عليها.
الطالب: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: ٣].
الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، هذه السورة تُسَمَّى سورة الزُّمَر؛ لقول الله تبارك وتعالى فيها: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر: ٧٣]، وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: ٧١]، وتسمية السور تكون لأَدنى ملابسة وأدنى مناسبة، ولهذا سمِّيَت سورة البقرة دون أن تُسَمَّى سورة الدَّيْن مثلًا أو سورة العِدَد، مع أن ذِكْرَ الدَّين وما يتعلَّق به قد يكون كآيات البقرة، لكن التسمية تكون لأدنى مناسبة وملابسة.
يقول المؤلف: (مكية) يعني أنها من السور المكية، وأصَحُّ ما يقال في السور المكية: إنها ما نزل قبل الهجرة، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني، حتى لو نزل في مكة وهو بعد الهجرة فإنه يُسَمَّى مدنِيًّا، ولهذا نقول: إن قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: ٣] نقول: إنها مدنية مع أنها نزلت في عرفة.
قال المؤلف: (إِلَّا قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] إلى آخره) هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل، والقاعدة إن كلَّ مَن استثنَى آياتٍ من سور مكية قال: إنها مدنية فعليه الدليل، والعكس بالعكس: مَن استثنى آياتٍ من سور مدنية وقال: إنها مكية فعليه الدليل؛ لأن الأصل إن السورة إذا كانت مكية فهي مكيةٌ بجميع آياتها، هذا هو الأصل حتى يقوم دليل على الاستثناء، ولا أعلم لهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف دليلًا، بل إن ظاهرَه من حيث المعنى يقتضِي أن يكون من المكيات، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْإلى آخره كله يتعلق بالتوحيد والتوبة.
(وهي خمس وسبعون آية) خمس وسبعون آية مقسَّمة إلى هذا التقسيم تقسيمًا توقيفِيًّا؛ يعني إن الذي يحَدِّدُ الآيات هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يحدد الآيات ويحدِّدُ مكانها وترتيبها، ولهذا نقول: إن ترتيب الآيات توقيفِي، وترتيب السور منه توقيفي ومنه اجتهادي من الصحابة، فمثلًا الجمعة والمنافقون ترتيبها؟
الطلبة: توقيفي.
الشيخ: توقيفي؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين ، و(سبِّح) والغاشية كذلك، البقرة وآل عمران كذلك توقيفي، طيب.
ومنه شيء اجتهادي ثبت باجتهاد الصحابة، قد تختلف فيه مصاحف الصحابة؛ لأنه عن اجتهاد.
ترتيب الآيات حيث قلنا: إنه توقيفي لا يجوز الإِخلال به، فلا يجوز أن تُقَدِّمَ آيةً على آية في التلاوة؛ لأن الذي وضع الآية في مكانها هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ترتيب الكلمات أيضًا توقيفي، لا يجوز أن تُقَدِّم كلمةً مكان كلمة.
ترتيب الحروف توقيفي، لا يجوز أن تقَدِّم حرفًا في كلمة على حرف.
فهاهنا الآن ترتيبات: ترتيب الحروف وترتيب الكلمات وترتيب الآيات كله توقيفي لا يجوز الإخلال به، وترتيب السور منه توقيفي ومنه اجتهادي.
قال الله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِالبسملة آية مستقلة في كتاب الله عز وجل، ليست من الفاتحة ولا من غير الفاتحة على القول الراجح، فهي آية مستقلة يؤْتَى بها للبدَاءَةِ بالسورة، أو نقول: للفصل بين السورتين؟ للبداءة؛ لأننا لو قلنا: للفصل بين السورتين أُورِد علينا سورة الفاتحة؛ لأنها ليس قبلها سورة، إذن للبدء بالسورة. وسقطت بين الأنفال والتوبة؛ لأنها لم ترِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبتَتْ ما أهملَها الصحابة رضي الله عليهم.
والبسملة -كما نشاهد ونقرأ- شبه جملة وليست بجملة؛ لأنها جار ومجرور، والجار والمجرور والظرف يُسَمَّى شبهَ جملة، ولا يسمى جملة؛ لأنها لم توجد فيه أركان الجملة، ولكن الجملة مقدَّرَةٌ فيه، واضح ولَّا لا؟
طالب: واضح.
الشيخ: الجار والمجرور والظرف يسمى شبهَ جملة ولا يسمى جملة، لماذا؟ لأنَّه لم تُذْكَر فيه أركان الجملة، ولكنه شبه جملة؛ لأنه لا بد من تقديرٍ تتِمُّ به الجملة، فـبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِجارٌّ ومجرور ومضافٌ إليه وصفة متعلقة بمحذوف، ولا بد، ولهذا قال في نظْمِ الجمل:
لَا بُدَّ لِلْجَـــــــــــــارِ مِــــنَ التَّعَــــــــلُّقِ بِفِــــــعْلٍ اوْ مَعْنَـــــــاهُ نَحْــــــــوُ مُــــــــرْتَقِي
وَاسْتَثْنِ كُــــــلَّ زَائِــــــدٍ لَهُ عَـــــــمَلْ كَالْبَا وَمِِنْ وَالْكَافِ أَيْضًا وَلَعَلْ

(مرتقي) بمعنى الفعل؛ لأنه اسم فاعل.
وَاسْتَثْنِ كُـــــــلَّ زَائِــــــدٍ لَهُ عَــــــــمَلْ كَالْبَا وَمِِنْ وَالْكَافِ أَيْضًا وَلَعَلْ

وذلك لأن الذي فيه حروف جر زائدة يُقَدَّر كأنه لا حرفَ فيه، لو قلت: ليس زيدٌ بقائم فإنك تقول: (قائم) خبر (ليس)، ما تقول: مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، لا.
على كل حال البسملة متعلقة بمحذوف، فما هو المحذوف؟ أحسن ما يُقدَّر به هذا المحذوف أن يُقدَّرَ فعلًا متأخِّرًا مناسِبًا للمَبْدُوء به، ويش قلنا؟
طالب: يقدر فعلًا..
الشيخ: متأخرًا.
الطالب: مناسب لموضعه.
الشيخ: نعم طيب، هذا أحسن شيء، فمثلًا إذا كنت تريد أن تقرأ تقول: التقدير باسم الله أقرَأُ، إذا أردت أن تتوضأ التقدير: باسم الله أتوضأ، أردت أن تدخل: باسم الله أدخُل.. وهكذا.
قدَّرْنَاه فعلًا؛ لأنه الأصل في العمل، الأصل في العمل الأفعال، واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر العامل ملْحَق بالفعل، فلذلك اخترنا أن نقدِّرَه فعلًا لا اسمًا؛ لأنه الأصل في العمَل.
اخترنا أن يكون متأخِّرًا لوجهين:
الوجه الأول: التبرك بالابتداء بـ(اسم الله)، أن نجعل أول الجملة بِسْمِ اللَّهِتبرُّكًا.
والثاني: إفادة الحصر؛ لأن تأخير العامل يفِيد الحصر.
اختَرْنا أن يكون مناسِبًا للموضوع أو لما ابتُدِئَ به؛ لأنه أدَلُّ على المقصود، حيث يُعَيِّن أن البسملة لهذا الشيء.
طيب لو قلنا: تقدير الكلام: باسم الله أبتدئ، ما الذي فاتنا؟
طالب: (...).
الشيخ: لا، قلنا: باسم الله أبتدئ، فِعْلٌ. ما هو فعل؟
الطالب: لكنه غير مناسب.
الشيخ: طيب هذا اللي فاتنا، إذن فاتنا أنه غير مناسب للموضوع.
طيب إذا قدَّرْنا: أقرأُ باسم الله، ما الذي فات؟
الطالب: (...) أن يقرأ؟
الشيخ: إي، أنا أريد أن أقرأ فقلت: التقدير: أقرأُ باسم الله.
الطالب: ما فات شيء.
الشيخ: ما فات شيء؟ لا.
طالب: فات الحصر.
الشيخ: لا.
طالب: فات التبرُّك بالاسم.
الشيخ: لا.
طالب: التقديم (...).
الشيخ: فات التقديم.. فات التأخير..
الطالب: قلت (...).
الشيخ: تقول: ما فات شيء؟
طالب: أقرأ (...).
الشيخ: لا، ما في.. كُلٌّ يخطئ.
طالب: (...) بعض.
الشيخ: طيب، إذن نقول: إذا قلنا: التقدير: أقرأُ باسم الله، الذي فات التأخيرُ، لكن فائدة التأخير -اللي أشار إليها الإخوان- هي الحصر والتبرُّك بالبداءة بباسم الله.
طيب إذا قلنا: باسم الله قراءتي، ويش الذي فات؟
الطالب: (...) فات أن يكون فعلًا.
الشيخ: فات أن يكون فعلًا، صح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(اسم) مفرد مضاف، والمفرد المضاف للعموم، وعلى هذا فيكون المعنى: بكلِّ اسمٍ من أسماء الله؛ لأنَّ المفرد المضاف يكون للعموم.
والدليل على أن المفرد المضاف يكون للعموم قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [النحل: ١٨]، فـنِعْمَةَمفرد ومع ذلك قال: (تعدوا) (لا تحصوا)، فدل هذا على أنها عامَّة في كل نعمة.
والباء في قوله: بِسْمِ اللَّهِللاستعانة والمصاحبة والملابَسَة؛ يعني: مستعينًا مصطحِبًا متلبِّسًا باسم الله.
و(الله) عَلَمٌ على ذاتِ الله سبحانه وتعالى، خاصٌّ به لا يُسَمَّى به غيره.
واختلف العلماء هل هو مشْتَق أو جامِد؟ والصحيح أنه مشتَقٌّ؛ لقول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف: ١٨٠]، ولو جعلناه اسمًا جامدًا لكان غير دالٍّ على الوصف بل كان عَلَمًا محضًا، وحينئذ لا يكون دالًّا على الأحسن، بل لا يكون دالًّا على الحُسْن فضلًا عن الأحسن، فالصحيح الذي لا شك فيه أنه مشْتَقٌّ، مشْتَقٌّ من أي شيء؟
مُشْتَقٌّ من الألوهية؛ وهي التقَرُّب والتَّعَبُّد للمأْلُوه على وجه المحبة والتعظيم.
وأما قوله: الرَّحْمَنِفهو أيضًا علَم على الله عز وجل، لا يُسَمى به أحدٌ غيره، فهو من أسماء الله الخاصة به، ولا يُوصف به غيره، وهو مشتَقٌّ من الرحمة، وكان بصيغة (فَعْلَان) لدلالة هذه الصيغة على السَّعَة والامْتِلَاء، فهو دالٌّ على سعة رحمة الله عز وجل وشُمُولِها لكل شيء.
وأما الرَّحِيمِفهو اسمٌ من أسماء الله لكن يوصف به غيره، قال الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: ١٢٨]، وهو مشْتَقٌّ من الرحمة، لكنه إذا قُرِن بالرحمن -أي إذا ذُكِرا جميعًا- كانت (الرحمن) دالَّةً على الوصف و(الرحيم) دالَّةً على الفعل؛ أي: أنه يرحَم برحمتِه عز وجل مَن يشاء.
ثم قال الله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}،تَنْزِيلُ الْكِتَابِالكتاب هو القرآن، وسُمِّي كتابًا لأنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، ومكتوب بالصحف التي بأيدينا، ومكتوبٌ في الصحف التي بأيدي الملائكة، قال الله تعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: ١١ - ١٦].
إذن الكتاب هو القرآن، وسمي كتابًا لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، في الصحف التي بأيدينا، في الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلى هذا فـ(فِعَال) بمعنى (مَفْعُول)، وهذه الصيغة -أعني (فعالًا)- تأتي بمعنى (مفعول) في اللغة العربية كثيرًا، مثال (فِعال) بمعنى (مفعول)؟
طالب: (...) فِراش بمعنى مفروش، (...).
الشيخ: وغِرَاس بمعنى مغروس، بناء بمعنى مبْنِي، طيب.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِقال المؤلف: (القرآن، مبتدأ) أيُّها المبتدأ؟ هي تَنْزِيلُولَّا الْكِتَابِ؟
طالب: تَنْزِيلُ.
الشيخ: تَنْزِيلُ، قال: ({مِنَ اللَّهِ} خبرُه) إذن معنى الآية: أن الله يخبر عز وجل بأنَّ تنزيل الكتاب من عندِه، مِنَ اللَّهِأي: أنه نازِلٌ منه، من عند الله؛ لا من جبريل، ولا من محمد، ولا من أيِّ مصدرٍ كان، بل هو نازل من الله سبحانه وتعالى، تكلَّم به وألقاه إلى جبريل، ثم إن جبريل نزلَ به على قلْبِ النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٤]، وتأمل قوله: عَلَى قَلْبِكَلِتعلَم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعَى القرآن وعيًا تامًّا؛ لأنَّ ما نزل على القلب لا بد أن يَعِيَهُ القلب.
قال: ({الْعَزِيزِ} في ملكه، {الْحَكِيمِ} في صنعه) الْعَزِيزِما معناها؟ العزيز لها معانٍ:
أولًا: (عزيز) بمعنى غالب، ومنه قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: ٨]، قالها الله تعالى جوابًا على قول المنافقين: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: ٨]، فسَلَّم الله ذلك أن الأعز يخرِج الأذل، لكن قال: العزة لِمَن؟ لله ولرسوله وللمؤمنين، أما المنافقون فلا عِزَّةَ لهم حتى يستطيعوا أن يُخْرِجوا المؤمنين منها، طيب العزيز بمعنى الغالِب، ومنه قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
(عزيز) بمعنى قوِي، شديد القوة، ومنه قولهم: أرض عزَاز؛ يعني: صلبة قوية، ومِن المعلوم أن الله تعالى في صفاتِه كلِّها شديدٌ قوِي، كلُّ الصفات كاملة ليس فيها نقص ولا وهن ولا ضعف.
الثالث: من معنى العِزَّة الامتِنَاع؛ يعني: أنه ممتَنِع عن أن ينالَه سوءٌ، فهذه ثلاثة معانٍ للعزيز: غالب، قوي، ممتنع عن كلِّ نقصٍ.
وأما قول المؤلف: (في ملكه) فإنه قاصر في الحقيقة، قاصر جدًّا؛ لأنه إذا قُيِّدَت العزة في الملك فإنها لا تتناول إلا العزيز بمعنى الغالب أو القوي.
وأما الحكيم فيقول: (الحكيم في صنعه) (في صنعه) أي: فيما صنع، وهل يُوصف الله تعالى بأنه صانع وأن له صنعًا؟ الجواب: نعم، يُوصف بأنه صانع وأنَّ له صُنْعًا، قال الله تبارك وتعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: ٨٨].
لكن يجب أن نعلم أنَّنا إذا وصَفْنا الله بالصنع فليس كصفتنا للمخلوق بالصنع، المخلوق إذا كان صانعًا يحتاج إلى أدوات؛ إن كان نجَّارا يحتاج إلى منشار، قَدُّوم، مِخْرَاق، وما أشبه ذلك، لكن الله عز وجل لا يحتاج، فلما قال الله عز وجل: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] هل بناءُ الله عز وجل كبناء المخلوق؛ يحتاج إلى زِنْبِيل وإلى لبن وإلى طين؟ لا، فالبناءُ غير البناء، والصنع غير الصنع، قد يتوهمُ الانسان أنه إذا وصف الله بالصنع وأنه صانع قد يتوهم أنه يحتاج إلى آلات يُصْنَع بها، ولكن هذا خطأ؛ لأن صنع الله ليس كصنع البشر.
وقول المؤلف: (الحكيم في صنعه) تقييدها في الصنع فيه قصورٌ، والصواب أنه حكيمٌ في صنعه وفي شرعِه، ولهذا يَختِمُ الله أحيانًا آياتِ التشريع بالحكمة، كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: ١٠]، فهو حكيمٌ في صُنْعِه، حكيم في شرعِه؛ في صنعه يعني: جميع مصنوعاته كلُّها مُحْكَمَة، قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ [الملك: ٣]: قَلِّبْ فَكِّرْ، هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٣، ٤] يعني: كرَّةً بعد أخرى، في النهاية يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، هذا من الإحكام في الصُّنع.
أما في الشرع فيقول الله سبحانه وتعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢] وتناقُضًا، القرآن لا يمكن يتناقض أبدًا، وإذا رأيتَ آيةً ظاهرُها يناقض الآيةَ الأخرى فاعلم أن ذلك إما من سُوء فهمِك، أو من قصور علمِك؛ إما من قصور علمِك بأن تكون الآية هذه ناسخَةً للآية وأنت لا تعلم، أو من سوء فهمك بأن تكون كلتا الآيتين محكمة ولكن لم تفهَم الجمع بينهما، وإلا فلا يمكن أبدًا أن يكون في كلام الله تناقُض، ولا فيما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض أبدًا، هذا لا يمكن؛ لأنه شرْعُ الله، والله تعالى قد أحكم شرعه.
إذن الله حكيمٌ في صنعه وفي شرعه، وبناءً على هذا تكون (حكيم) بمعنى محكم، لا بمعنى حاكِم، على هذا التفسير أن معنى (حكيم) المحكم لشرعه وصنعه. وهنا نسأل: هل تأتي (فعِيل) في اللغة العربية بمعنى (مُفعِل)؟ والجواب: نعم تأتي (فعيل) بمعنى (مُفعِل)، ومنه قول الشاعر:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْـحَــــــابِي هُجُـــــــوعُ

(أمن ريحانَةَ الداعي السميعُ)، (السميع) اللي يسمع أو السميع بمعنى المُسمِع؟
طالب: بمعنى المسمع.
الشيخ: بمعنى المسمِع.
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وَأَصْـحَــــــابِي هُجُـــــــوعُ

حينئِذٍ تكون (حكيم) بمعنى مُحْكِم.
وهل يمكن أن تكون بمعنى حاكم؟
الجواب: نعم يمكن أن تكون بمعنى حاكم، وعلى هذا فتكون (حكيم) بمعنى: أن له الحكم.
والحكم المضاف إلى الله عز وجل يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي؛ الحكم الكوني هو إيجاده للأشياء وخلقه للأشياء والحكم عليها بالفناء والبقاء والتحول والتغير، وما أشبه ذلك، كل هذا حكم، الحكم الشرعي هو ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أحكام الله التي يُلزَم بها المكلَّف، فقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ [الإسراء: ٧٨] هذا؟
طالب: شرعي.
الشيخ: شرعي، كُونُوا قِرَدَةً [البقرة: ٦٥] هذا كوني.
طيب أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة: ٥٠]؟
طالب: شرعي.
الشيخ: شرعي. ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: ١٠]؟
طالب: شرعي.
الشيخ: شرعي. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي [يوسف: ٨٠]؟
طالب: كوني.
الشيخ: كوني، تمام.
طيب في هذه الآية يخبر الله عز وجل أن تنزيل الكتاب من عنده، وعلى هذا فتفيد الآية الكريمة أن القرآن مُنَزَّل غير مخلوق.
أما إفادتُها لكونِه منزَّلًا فظاهر تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، لكن كيف تفيد أنه غير مخلوق؟ لأن هذه الفائدة قد يعارِض فيها مُعارِض ويقول: ليس كلُّ مُنَزَّلٍ غيرَ مخلُوق، بل في المنزل ما هو مخلوق، قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق: ٩] والماء مخلوق، وقال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: ٦] وهذه الأنعام مخلوقة، فلا يلزَمُ من الإنزال أو التنزيل أن يكون المنَزَّلُ غيرَ مخلوق، فما هو الجواب عن هذا الإيراد؟ لأن هذا إيراد قوي يُورِدُه الجهمية الذين قالوا: إنَّ كلام الله مخلوق.
الجوابُعن هذا الإيراد سهلٌ: أن يقال: إنَّ الإنزال إذا أُضِيف إلى عينٍ قائمة بنفسِها فهذه العين مخلوقة، وإذا أُضِيفَ إلى وصف كان هذا الوصفُ حسبَ الموصوف. والكلام وصف ولَّا غير وصف؟
طالب: وصف.
الشيخ: فإذا كان الله أنزل القرآن -وهو كلام- وأضافه إلى نفسِه، فهو عز وجل هو بصفاته أزليٌّ أبدي ليس بمخلوق واجب الوجود، إذن يتِمُّ الاستدلال أو لا يتم؟ يتم الاستدلال أن نقول: في قوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِدليل على أن القرآن منَزَّل غير مخلوق.
طيب فيه دليل على علُوِّ الله؟
طالب: (...).
الشيخ: وجهُه؟
الطالب: (...).
الشيخ: أنه قال: مِنْ اللَّهِ، و(مِن) للابتداء، فإذا كان ابتداءُ الكتاب من عند الله وهو منزَّل دلَّ على علو من كان من عنده، وهو الله عز وجل.
ومِن فوائد هذه الآية: تعظيم القرآن، وجهُه أنه نازِلٌ من عند الله وأنه كلام الله، فيكون عظيمًا كعِظَمِ المتكَلِّم به.
من فوائد هذه الآية: إثبات ثلاثةِ أسماء من أسماء الله؛ وهي: الله، والعزيز، والحكيم.
ويتفرع على هذه الفائدة: إثبات ثلاث صفات من صفات الله: الألوهية، والعزة، والحكمة، بل أربع صفاتٍ؛ الحكمة والحُكم.
طيب إذا قيل: كيف استفدنا أربع صفات؟
نقول: لأنَّ لدينا قاعدة؛ وهي أن الأسماء الحسنى كلُّ اسمٍ منها متضَمِّن لصفة، وبقية الفوائد تأتي إن شاء الله.
طالب: (...) ترتيب السور منها ما هو وتوقيفي ومنها ما هو اجتهادي، كيف يفرق بين التوقيفي والاجتهادي؟
الشيخ: ما عُلِم أن الرسول رتَّبَه فهو توقيفي.

***

الطالب: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: ١ - ٣].
الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا أن السورة مكية، فما هو الضابط في السورة المكية؟
طالب: ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي.
الشيخ: طيب، استثنى المؤلف آيةً منها؟
الطالب: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا [الزمر: ٥٣].
الشيخ: نعم، والصحيح؟
الطالب: الصحيح أنه لا يُوجد دليل على هذا الاستثناء.
الشيخ: طيب لنا ضابط في هذه؟
الطالب: أن (...) أن أي استثناء يحتاج إلى دليل.
الشيخ: فإذا كانت السورة مكية فالأصل؟
الطالب: أنها كلها مكية.
الشيخ: أنها كلها مكية، طيب.
مما سبق استفدنا أن القرآن منزلٌ غير مخلوق؟
طالب: من قوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ.
الشيخ: طيب لو قال لك: إن المنزَّل قد يكونُ مخلوقًا، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق: ٩]؟
الطالب: الماء إذا أضيف إلى عينٍ بنفسها كان مخلوقًا.
الشيخ: إذا كان المنزَّل عينًا قائمةً بنفسها كانت مخلوقة، وإن كان وصفًا؟
الطالب: (...) الموصوف.
الشيخ: والكلام؟
الطالب: وصف.
الشيخ: وصف، أحسنت.
سبق لنا أن العِزَّة ثلاثةُ أقسام؟
طالب: بمعنى غالب.
الشيخ: عزة القهر، وعزة؟
الطالب: عزة الامتناع، وعزة القوة.
الشيخ: القوة، أحسنت.
طيب (الحكيم) هل هي بمعنى مُحكِم أو بمعنى حاكِم؟
طالب: تكون بمعنى مُحكِم وتكون بمعنى حاكم.
الشيخ: تشمل هذا وهذا، إذا كانت بمعنى مُحكِم فهي مشتَقَّة من أيش؟ أنت إذا قلت: ضاربٌ مشتقةٌ من الضرب، مُحكِم؟
طالب: من حكيم.
الشيخ: سبحان الله!
طالب: أحكَمَ.
الشيخ: من أحْكَمَ؛ أي من الإحكام، طيب اشْتَق من الإحكام، ما هو الإحكام؟
طالب: هو اسم من أسماء الله.
الشيخ: سبحان الله، الإحكام اسم من أسماء الله؟! أتيتَ به من كيسِك.
طالب: الإتقان.
الشيخ: الإحكام يعني الإتقان، طيب، ويعود إلى معنى الحكمة؛ لأنَّ الحكمة وضْعُ الشيء في موضعه، ووضْعُ الشيءِ في موضعِه إتقان، طيب وإذا كانت (حكيم) مِن؟
طالب: يعني حاكم.
الشيخ: معنى حاكم.
الطالب: (...).
الشيخ: مشتقة منين؟
الطالب: من الحُكم.
الشيخ: من الحكم، أحسنت، يعني إذن الله له الحكم والإحكام؛ يعني موصوفٌ بالحُكْم والإحكام، تمام.
طيب هل يشارِك اللهَ أحدٌ في الحكم؟
الطالب: الحكم الشرعي لا يشاركه أحد، ولا الكوني لا يشاركه أحد.
الشيخ: لا يشاركه أحدٌ لا الشرعي ولا الكوني؟
طالب: ممكن..
الشيخ: قال الله تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [المائدة: ٤٢].
الطالب: (...) حكم الله عز وجل.
الشيخ: يعني الحكم المطلق؟
الطالب: لله عز وجل.
الشيخ: لله عز وجل، والمقيد؟
الطالب: للمخلوق.
الشيخ: يكون للمخلوق، تمام.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: الْحَكِيمِسبق لنا أنه من الإحكام ومن الحُكم، فالإحكام يعني الإتقان، والإتقان هو الحكمة؛ وهي وضع الشيء في موضعِه.
قال العلماء: والحكمة تكون في صورة الشيء وهيئة الشيء وذاتِ الشيء وتكونُ في غايته؛ الحكمة في نفس الشيء يعني أن الشيء نفسَه مشتمل على الحكمة، فإذا تأَمَّلْتَ الشرائع وجدتَ أنها مشتمِلة على الحكمة، وإذا تأمَّلْتَ الغاية منها وجدتها أيضًا في غاية الحكمة، كذلك أيضًا إذا تأملت الصنائع التي صنعها الله عز وجل -وهي الحكمة التي تكون في الكون- وجدت أنها مشتملة على الحكمة، وإذا تأملت الغاية منها وجدتها أنها حكمة أيضًا، فالعبادات المقصود بها إصلاح الخلق، وهي موضوعة على وفق الحكمة، الصلوات كونُها بهذه الهيئة هو الحكمة، الزكاة والحج وبقية العبادات.
الكون؛ السماء الأرض الشمس القمر كونُها على هذا النظام البديع هذا حكمة، والغاية منها أيضًا حكمة، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: ٢٧].
تفسير الآيات (2-4)
00:39:36

ثم قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ [الزمر: ٢] لَمَّا بَيَّن أن تنزيل الكتاب من الله؛ بيَّن إلى مَن أُنزِل فقال: ({إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد) أَنْزَلْنَاضمير جمع لكنه إذا كان عائدًا إلى الله فليس للجمع قطعًا بل هو للتعظيم، وقد اشتبه على النصراني مثل هذا الجمع وقال: إن الله ثالث ثلاثة؛ لأن الله تعالى يذكر الضمير عائدًا إليه بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فنقول في الرد عليه: إن هذا من زيغ النصارى، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥]، فاتَّبَعُوا المتشابه من القرآن، ولو أنهم ردوا هذا المتشابه إلى المحكم لعلموا أنهم مخطئون غاية الخطأ؛ وذلك أن الله صرَّح في آيات كثيرة بأنه إلهٌ واحد فقال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: ١٦٣]، وهذا نصٌّ صريح مُحكَم، وأما (نا) التي هي ضمير الجمع فإنها في اللغة العربية التي نزَل بها القرآن صالحة للجمع وللمُعَظِّم نفسَه، إذن هي من المتشابه؛ لأن اللفظ إذا احتمل معنيين فإنه يقال فيه: متشابه، والمتشابه يجب أن يُرَد إلى المحكم.
قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَإِلَيْكَهذا الغاية، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، الْكِتَابَأي: المكتُوب، وهو القرآن، وسبق وجه كونه كتابًا.
({بِالْحَقِّ} متعلِّق بـ(أنزل)) بِالْحَقِّالباء هنا للملابسة وللتعدية؛ يعني: أن الكتاب نفسه نزل حقًّا من عند الله لا من عند غيره، أَنْزَلْنَابالحق؛ يعني بالتأكيد، أننا أنزلناه إليك من عندنا، وقلنا أيضًا: للتعدية؛ بمعنى أن الكتاب نزل بالحق؛ أي أن ما اشتمل عليه القرآن فهو حقٌّ.
فعلى الوجه الأول يكون المراد بالحق تأكيد أنه نزل من الله، وعلى الوجه الثاني يكون المعنى أن كلَّ ما اشتمل عليه القران من أخبار وأوامر ونواهٍ وغيرها فهو حق.
إذن بِالْحَقِّله معنيان:
المعنى الأول: أن القرآن نزَلَ من عند الله حقًّا لا باطلًا.
الثاني: أن ما اشتمل عليه القرآن فهو حق؛ أوامر، نواهٍ، أخبار، قصص، كلها حق.
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّقال: (متعلِّق بـ(أنزل)) ولم يقل: متعلق بـأَنْزَلْنَا؛ لأنَّ المتعَلِّق إنما يتعَلَّق بالفعل، أما (نا) فهي ضمير خارجة عن الفعل.
قال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَالفاء للتفريع، وعلامة فاء التفريع أن ما بعدَها يكون مرَتَّبًا على ما قبلها، فالمعنى: فلإنزالِنا إليك الكتاب اعبدِ الله مخلصًا له الدين، (اعْبُد) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: مُخْلِصًاحال من فاعل (اعبد)، وإخلاص الشيء تنقِيَتُه من الشوائب وإزالة ما يُخالطه، فإذا كان مخلصًا له الدين فالمعنى أن تُنَقِّىَ دينك من كل شرك، ولهذا قال المؤلف: ({مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} من الشرك) أي: موحِّدًا له؛ أي: لله.
وقوله: لَهُ الدِّينَالدِّينَيعني: العمَل، والمراد به هنا العمل المخصوص وهو العبادة؛ لقوله: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، ولم يقل: مخلصًا له العبادة؛ لأن الدين هو العمل الذي يريد العامل عليه مكافأةً، هذا الدين، ومنه قولهم: كما تَدِين تُدَان.
واعلم أن (الدِّين) يُطلَق على العمل الذي يُراد به المكافأة، ويُطلقُ على نفس المكافأة وهي الثواب على العمل، فمِن الأول مثل هذه الآية مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، ومثل قوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: ٦]، ومثل قوله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: ٣]؛ أي عملًا تتعبدون به.
ومثال الثاني قوله تبارك وتعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤] يعني: يوم الجزاء على العمل، ومثل قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: ١٧، ١٨] أي: يوم الجزاء على العمل.
قال الله تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: ٣] أَلَاإداة استفتاح، وهي حرف يراد به التنبيه. ويش قلنا؟
طالب: أَلَاأداة تنبيه.
الشيخ: أداة تنبيه، إي نعم.
الطالب: أَلَاأداة استفتاح.
الشيخ: أَلَاأداة استفتاح، وهي حرف يُراد به التنبيه، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُهذه أداة استفتاح، وهي حرف يراد به التنبيه؛ لأنَّ المتكلم إذا قال: (أَلَا) انتبه المخاطب، وقوله: لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُالجار والمجرور خبر مقدم، والدِّينُمبتدأ مؤخر، ويفيد تقديم الخبر الحصر؛ أي: لله وحده.
وقوله: الدِّينُيعني: العمل الذي يُراد الثواب عليه، وقوله: الْخَالِصُيعني: النَّقي من الشوائب والشرك؛ أي أنه يجب على العاقل أن يجعل الدين الخالص لله وحدَه؛ إذ كيف يلِيق بالعاقل أن يتعبد بالحقِّ لله من أجلِ التَّقَرُّبِ إلى غيره؟! هذا خلاف العقل، فإذا قام الإنسان يصلِّي من أجل أن يراه الناس فهو سفيه في عقله ضالٌّ في دينه، كيف تجعل الحق الخالص للناس؟ الحق الخالص لله تجعَلُه للناس؟! العمل الذي للناس للناس، لكن العمل الذي لله يجِب أن يكون لله، ولهذا قال: أَلَا لِلَّهِوحده الدِّينُ الْخَالِصُ، فلا يجوز أن نجعلَه لغيرِه.
ولهذا قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَيقولون: مَا نَعْبُدُهُمْإلى آخرِه، الواو هنا للاستئناف، والَّذِينَمبتدأ، واتَّخَذُواصلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: يقولون: ما نعبدهم، أو قالوا: ما نعبدهم.
وقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَاتَّخَذُوابمعنى صيَّرُوا، كقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: ١٢٥] يعني: صيَّرَه، وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: ٢٣] أي: صيَّرَ إلهَه هواه، إذا كانت (اتخذ) بمعنى صيَّر فإنها تحتاج إلى مفعولين؛ مُصَيَّر ومُصَيَّرٍ إليه.
يقول المؤلف رحمه الله: (الأصنام {أَوْلِيَاءَ})، وعليه فيكون المفعول الأول محذوفًا، والثاني أَوْلِيَاءَ، وحَذْف المفعول إذا دلَّ عليه الدليل جائز، قال ابن مالك رحمه الله في بابِ المبتدأ والخبر قال:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا تَقُولُ (زَيْدٌ) بَعْدَ (مَنْ عِنْدَكُمَا)

(حذف ما يعلم جائز) الواقع أن هذا البيت في المبتدأ والخبر لكن هل هو عام؟ نعم هو عام، حذْف ما يعلم جائز، وقد يكون من الفصاحة والبلاغة أن يُحذَف، إنما الأصل أن ما يُعلَم يجوز الحذف، وما لا يعلم لا يجوز الحذف؛ لأن الكلام لا بد أن يكون مُبَيِّنًا لمراد المتكلم، وهذا لا يكون مع حذف ما لا يُعلَم.
طيب إذن المفعول الأول محذوف، والتقدير: الأصنام، والثاني موجود وهو قوله: أَوْلِيَاءَ، (أولياء) جمع وليٍّ؛ أي يتوَلَّوْنَها ولاية عبادة يتضَرَّعُون إليها، يسجُدُون لها، ينذُرُون لها، يتصَدَّقُون لها، لكن لا يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعُهم أو تضرهم بذاتها ولا أنها تخلُق ولا أنها ترزُق لكن يدَّعون أنهم اتَّخَذُوها وسيلة.
ولهذا يقول: ({وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} وهم كفارُ مكة) وتخصيصها هذا بكفار مكة فيه قصورٌ، ولا ينبغي أن نفَسِّر العامَّ بما هو أخص إلا على سبيل التمثيل، أما على سبيل تحديد المعنى بحيث يأتي اللفظ في القرآن عامًّا ثم نفَسِّرُه بمعنًى أخص فإنَّ هذا قصور في الحقيقة، أليس كذلك؟ لكن إن أراد الإنسان بهذا التفسير، إن أراد التمثيل؛ يعني: مثل كفار مكة فهذا لا بأس به، لكن القارئ الذي يقرأ مثل هذه العبارة من كلام المؤلف لا يشك أن المؤلف أراد بهذا التخصيص، وفي هذا نظرٌ ظاهر، فالواجب إبقاءُ دلالة عموم الآيات وكذلك الأحاديث على ما هي عليه حتى يقوم دليل عقلي أو قرينة لفظِيَّة على أن المراد الخاص.
طيب يقول: (وهم كفار مكة قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ}) (قالوا) هذه الجملة محذوفة؛ لأنها معلومةٌ من السياق، ويصح أن نقدِّر (يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ)، ولعلها أنسَب من قول المؤلف: (قالوا) حكايةً للحال التي هم عليها، وعلى كُلٍّ فالجملة المحذوفة هي خبر المبتدأ، وهو قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، ولا يجوز أن نجعل جملة مَا نَعْبُدُهُمْهي الخبر؛ لفساد المعنى.
قال: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىهذا حصر لمرادهم بعبادة هذه الأصنام؛ يعني: ما نعبدهم إلا لهذا الغرض لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وهذا إقرار منهم واعتراف بأنهم يعبدون الأصنام؛ لقولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ، وأنَّ هذه العبادة وسيلة لغاية أشرف منها وهي القُرْبى إلى الله عز وجل، وهذا من جهلهم؛ لأنه الآن إذا عبَدُوهم جعلوها غاية؛ لأنَّ المقصود هو الوصول إلى الله عز وجل، والوصول إلى الله لا يكون إلا بعبادته، فهم إذا عبدوهم جعلوهم هم الغاية، ولهذا سنبين -إن شاء الله- أن هذا من سفَهِهم.
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى(قُرْبى) مصدر بمعنى: تقريبًا، إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىزُلْفَىيقول المؤلف: إنها مصدر لكنَّها مصدرٌ معنوي؛ لموافقته العامل في المعنى دون اللفظ، لأنَّ المصدر قد يكون لفظيًّا وقد يكون معنوِيًّا؛ فإن وافَق عاملَه في اللفظ فإنَّه لفظي، مثل: قمتُ قيامًا، وإن خالفَه في اللفظ دون المعنى صار معنَوِيًّا، كقولك: قمتُ وقوفًا.
قعدتُ قعودًا؟
طالب: لفظِي.
الشيخ: لفظي. قعدتُ جلوسًا؟
طالب: معنوي.
الشيخ: معنوي، طيب.
يقول: تقرَّبُوا إلى الله زلفى، يقول: إنه بمعنى قربى، وقربي أيضًا يراد بها التقريب، وإنما قال المؤلف: إنه يراد بها التقريب؛ من أجل أن يطابِق الفعل، الفعل (قرَّبَ) مضارِعُه يُقَرِّب، المصدر المطابق أيش؟ تقريبًا لا قُرْبَى.
ولكن من المعلوم أنه قد يوافق المصدر عاملَه في اللفظ ولكنه لا يُطابِقُه في الحروف، ومثل هذا يسمَّى عندهم اسم مصدَر، كقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا [نوح: ١٧]، لو كان مصدرًا لقال: إنباتًا، فلما قال: نَبَاتًاونقصت حروفه عن حروف فعلِه سُمِّي اسمَ مصدر. المهم أنهم يقولون: نحن لا نعبد هذه الأصنام إلا من أجل أن تقرِّبَنا إلى الله تعالى قربى.
يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَإِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْالجملة استئنافية لبيانِ مآلِ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا الأصنام أولياء؛ يعني فماذا تكون نهايتهم؟ يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَطيب بَيْنَهُمْقال المؤلف: (وبين المسلمين)، فأشار إلى أن الطرف الآخر من البينُونة -أو من البَيْنِيَّة على الأصح- محذوف وبين المسلمين، وهذا التقدير ليس في السياق ما يدلُّ عليه، لو قال: (بينكم) لكان صحيحًا أن المراد: بينكم وبينهم، لكن هو قال: بَيْنَهُمْأي: بين هؤلاء الكفار، فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَوكأن المؤلف رحمه الله ظنَّ أنه لا اختلافَ بين الكفار، وليس كذلك، بل الخلاف بينهم حاصل في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ [الأعراف: ٣٨] إلى آخر الآيات، محاورة، منازعة، مخاصمة، فيحكم الله بينهم، وقد ذكر الله ذلك في عدة آيات، فالصواب أن الضمير بَيْنَهُمْأي يعود على الكفار، وأنَّ الخلاف أو الاختلاف حاصل بينهم أنفسهم.
النصارى واليهود بينهم خلاف؛ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة: ١١٣]، وهذا خلاف ثابت بين الأمم الكافرة، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما هم فيه يختلفون من أمر الدين، فيُدْخِلُ المؤمنين الجنة والكافرين النار، هذا بناءً على ما ذهب إليه المؤلف.
ولكن على القول الذي هو ظاهر الآية الكريمة يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، فيجعل كلَّ إنسان في منزلته، وقد بيَّن الله عز وجل ذلك في قوله: وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: ٣٣]، لما ذكر المحاورة بين المستضعفين والمستكبرين.
في هاتين الآيتين فوائد:
أولًا: فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُلُو مرتبتِه، وذلك بإنزال كتاب الله إليه؛ لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ.
وهنا نسأل هل إنزال القرآن إلى الرسول إنزالٌ إلينا؟ نعم إنزال إلينا؛ لأنه رسولنا، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: ١٧٤]، فالنازل إلى رسول الله نازل إلينا ولكنه هو المباشر لهذا الإنزال ويبَلِّغُه لنا.
من فوائد الآية: ما سبق من أن القرآن نازِلٌ من عند الله، فيكون كلامَه.
ومنها: علو الله عز وجل؛ لأنَّ النزول إنما يكون من أعلى (...).
دلَّ عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة، خمسة أنواع من الأدلة كلها تثبت علُوَّ الله على خلقه، وقد خالَف في هذا طائفتان:
الطائفة الأولى: طائفة الحلولية الذين قالوا: إن الله بذاته في كل مكان، يقولون: الله بذاته نفسُه سبحانه وتعالى في كل مكان؛ في المسجد، في السوق، في البيت، في السطح، في الحجرة، في أقبح مكان، والعياذ بالله. وهؤلاء الآن أقول: إنهم كفار، لكن مَن كان متأَوِّلًا وجب إعلامُه وبيانُ الحقيقة له فإن أصَرَّ فهو كافر.
الطائفة الثانية المخالفة: المعطلة الجاحدة الذين يقولون: إن الله تعالى ليس فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، هؤلاء وصفوا الله بالعدم، كما قال محمود بن سبكتكين رحمه الله لابن فورك لمَّا قال: إن الله لا موجود ولا معدوم.. إلى آخره، قال له محمود بن سبكتكين: إنك وصفتَ الله تعالى بالعدم. وصدق، لو أردنا أن نصِفَ معدومًا ما وجدنا أشد إحاطةً من هذا الوصف بالمعدوم.
طيب، هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، وقالوا: إن الله تعالى نفسَه فوق كل شيء كما دلَّ على هذا الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
ومن فوائد هذه الآية: أن الكتاب حقٌّ من عند الله لم يتقَوَّلْه النبي صلى الله عليه وسلم على ربِّه، بل هو من عند الله؛ لقوله: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّيعني: أنه حقٌّ من عند الله عز وجل، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤ - ٤٦].
ولا بأس أن نتكلم عن هذه الآية، قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَابعد أن قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا [الحاقة: ٤٠ - ٤٤] لئلا يتوَهَّم واهم أنه لما قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍصار القرآن من عند الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه هو الذي قاله، فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة: ٤٤ - ٤٧].
ومن فوائد هذه الآية: أن جميع ما في القرآن حق، على الوجه الثاني، أخباره وقصصُه وأوامرُه ونواهيه، إذن أخبارُه ليس فيها كذب بوجه من الوجوه، قصصُه ليس المراد منها إمضاء الوقت وإتلاف الوقت بل هي قصص نافعة، ويأتي -إن شاء الله- البقية (...).

***

الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: ٣ - ٥].
الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُما معنى هذه الجملة من الآية؟
طالب: (...).
الشيخ: ليس كذلك.
الطالب: (...).
الشيخ: معنى الآية، ما نريد التفصيل.
الطالب: تنبيه على أن دين الله تبارك تعالى دينٌ نقيٌّ..
الشيخ: نقي من الشرك، وأنَّ كلَّ دين صار فيه شرك فإنَّ الله لا يقبله، نعم طيب.
قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَكيف نُعرِب هذه الجملة؟
طالب: الواو حرف استئناف، والَّذِينَمبتدأ.
الشيخ: نعم، أين خبره؟
الطالب: خبرُه مقول قول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ، التقدير: يقولون (...).
الشيخ: تقول: الخبر مقول القول، وأنت تقول: محذوف تقديره يقولون، أيش (...)؟
الطالب: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِمقول.
الشيخ: أين خبر (الذين)؟
الطالب: محذوف.
الشيخ: ويش التقدير؟
الطالب: يقولون.
الشيخ: يقولون، نعم طيب، إذا كانوا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِفهنا جعَلُوا الوسيلة؟
الطالب: هي عبادة الأصنام، جعلوا الوسيلة..
الشيخ: إي نعم، لكن هنا جعلوا الوسيلة غاية.
الطالب: (...).
الشيخ: إي نعم.
الطالب: (...) هم يقولون: نحن ما نجعلها (...) بل نجعلها وسيلة.
الشيخ: يا أخي قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّافهم عبدوها ليكون ذلك وسيلة ليقربهم إلى الله، فجعلوا الوسيلة جعلوها غاية؛ لأن الغاية من التقرب إلى الله هو عبادته، فهنا قلبوا الواقع فجعلوا الوسيلة غاية.
طيب هل حال بعض الناس عند القبور كحال هؤلاء؟ نعم، فيه ناسٌ يطوفون بالقبور ينذرون لها، يسجدون لها، يقولون: هؤلاء أولياء يقربوننا إلى الله كحال هؤلاء. وهل لهؤلاء القبوريين وجود؟
طالب: الآن، إي نعم.
الشيخ: الآن موجود.
الطالب: الذين يعبدون (...).
الشيخ: أنا وصفت لك حال الذين يطوفون بالقبور ويعبدونهم، فقلت: هل يشبهون حال المشركين؟ فقلت لي: نعم، فأقول لك الآن: هل لهؤلاء الآن وجود في العالم الإسلامي أو لا؟
الطالب: إي نعم.
الشيخ: لهم وجود.
طيب قال المؤلف: ({إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وبين المسلمين)، فما مدى صحة هذا التفسير؟
الطالب: (...).
الشيخ: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْالمؤلف يقول: (وبين المسلمين)، فما مدى صحة هذا التفسير؟
الطالب: ليس بصحيح.
الشيخ: ليس بصحيح، ما هو الصحيح؟
الطالب: الصحيح أنه (...).
الشيخ: أحسنت، يعني بين الكفار أنفسهم.
طيب هل لك أن تُبَيِّن لي صورة من اختلاف الكفار؟
طالب: (...).
الشيخ: يعني مثل آية تشهد على أنه يكون بينهم اختلاف.
الطالب: قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ [آل عمران: ١٩].
الشيخ: لا، هذا يوم القيامة، اختلافهم يوم القيامة؛ لأن الله يحكم بينهم يوم القيامة.
الطالب: مثل قوله تعالى (...): قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا [الأعراف: ٣٨].
الشيخ: أحسنت، مثلما قال: الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: ٣١]، والآيات في هذا متعددة.
قال الله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
من فوائد هذه الآية: أن إنزال القرآن حُجَّةٌ على الناس يُلْزِمُهم بعبادة الله؛ لقوله: فَاعْبُدِ، والفاء هذه للتفريع؛ أي: فلأجل إنزال الكتاب إليك اعبُدِ الله.
ومن فوائدها: أن من لم يبلُغْه الكتاب لم تلزمْه العبادة، ويدل لهذا آياتٌ أخرى مثل قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]، ومثل قوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥]، ومثل قوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: ٥٩].
ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» ، فقال: «لَا يَسْمَعُ بِي»، والنصوص في هذا المعنى كثيرة أن من لم تبلغه دعوةُ الرسل لا تلزمُه العبادة.
والدليل التطبيقي لهذه المسألة عدة شواهد؛ منها: حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه بعثَه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فأجْنَب فلم يجِدِ الماء، فتمَرَّغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة ظنًّا منه أن هذا لازِمٌ له وصلَّى، وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهذا، فبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكفِيه عن الغُسْل أن يضْرِبَ الأرض بيديه ثم يمسَح وجهَه وكفَّيه، ولم يأمُرْه بإعادة الصلاة .
وكذلك الرجل الذي جاء فصلى ولا يطمَئِنُّ في صلاته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فقال له: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا . فعلَّمَه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بإعادة ما مضى من صلاته مع أنه كان لا يصَلِّي صلاة لا تجْزِئُه.
وكذلك المرأة التي كانت تُسْتَحَاض فتَظُنُّ أن هذا حيضٌ فلا تصلي فلم يأمُرْها النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة . وأمثال هذا كثير.
وعليه فلو أن رجلًا أسلم في بلاد الكفر أو في بلاد نائية لا يصِلُها أحكام الشرع وترَك الصلاة مدة ثم علِم بعد ذلك بوجوب الصلاة فإننا لا نأمُرُه بإعادة ما ترك وإنما نأمره بصلاة ما حضَر وقتُه فقط.
وكذلك لو كانت امرأة في محلٍّ ناءٍ بلغَتْ بالحيض وهي صغيرة ولم تصُمْ رمضان ولكنَّها في محلٍّ ليس حولَها علماء تسألهم قد غلب عليها الجهل كالبادية -مثلًا- فإننا لا نأمُرُها بقضاء ما تركَتْ من الصوم؛ للجهل، وهذا هو اللائق بالشريعة الإسلامية المبنِيَّة على اليسر والسهولة، وعلى أن الله تعالى لا يكلِّفُ نفسًا إلا وسْعَها، ولا يكلف نفسًا إلا ما آتاها، وهنا الآية التي معنا يمكن أن يكون فيها إشارة لِمَا ذكر، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَفَاعْبُدِبعد الإنزال أُمِر بالعبادة.
ومن فوائد هذه الآية: وجوب الإخلاص لله في العبادة؛ لقوله: مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، والإخلاص تنقية الشيء مما يشوبه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله قال: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» ، فلو تصدَّق الإنسان بمال لكنه مُرَاءٍ بذلك من أجل أن يُمدَح فإنه لم يعبُدِ الله، وهو آثم وليس بمأجُور، ولو صلَّى لِيُمْدَح فإنه لم يعبد الله وهو آثم وليس بمأجور؛ لأن الله أمر بعبادة خاصة وهي الإخلاص، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
ومن فوائد الآية الكريمة: أن العبادة دِينٌ يَدِينُ به الإنسان، ومعنى كونِه دينًا أنه يعمل لِيُثَاب.
ويتفرَّع على هذه الفائدة أنَّه ينبغي للإنسان حين العبادة أن يُلَاحِظ هذا المعنى وهو أنه يعمَل لِيُثَاب؛ لأنه إذا شعر بهذا الشعور فسوف يتقِن العمل؛ إذْ إن العقلَ يهدي الإنسان إلى أن الثواب على قدْر العمل؛ إن أحسنْتَ العمل حسُنَ الثواب، وإن قصَّرْت فالثواب ينقُص، وهذه المسألة -أعني شعور كون الإنسان يعمل من أجل الثواب- أعتقد أنها تفوت كثيرًا من الناس لا ينتبِهُون لها.
ومِن فوائدها أيضًا: الإشارة إلى نية المعمول له حينما تعمل تريد التقرُّب إلى الله عز وجل بامتثال أمره، فمثلًا عندما تريد تتوضأ تنوي بأنك تتوضأ امتثالًا لأَمْر الله حينما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: ٦]؛ من أجل أن تشعُر بالعبادة ولَذَّة العبادة، لا لأجل أن تبرِئَ ذمَّتَك بفعل ما هو فرْضٌ عليك من الطهارة للصلاة، هذا لا شكَّ أنه نية طيبة، لكن أطيب منها أن تستشعر بأنك تمتثل أمر الله لتشعر بلَذَّةِ العبادة وأنَّك حقيقةً عبدٌ لربك عز وجل، هذه مسائل ينبغي للإنسان أن ينتبه لها في عبادته، ولهذا قال: مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
ثم قال الله تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.
من فوائد هذه الجملة: أن الله لا يقبل إلا دينًا خالصًا أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ، أما ما سواه فليس لله حتى وإن أشرَكْت به مع الله -حطوا بالكم يا جماعة- لأنَّ الدين لله ما هو؟ الخالص النقي من شوائب الشرك.
فإن قال قائل: إذا كان العمل خالصًا في أولِه مُشْرَكًا فيه في آخره فهل يبطل العمل كله، أو يبطل ما فيه الشرك، أم ماذا؟
نقول: في هذا تفصيل؛ إذا كانت العبادة التي وقع الشرك في أثنائها ينبني بعضُها على بعض فإنها تبطل، مثل الصلاة: رجل أحرم بالصلاة مخلِصًا لله، وفي أثنائها سمع حوله أحد فراءَى في ذلك في صلاته في أثناء العبادة، ماذا نقول؟ نقول: الصلاة تبطل، تبطُل كلها؛ لأن أولها وآخرها مبْنِيٌّ بعضُه على بعض.
أما إذا كانت لا ينبني بعضُها على بعض فإن ما كان خالصًا يصِح، وما كان مشوبًا لا يصح؛ مثل رجل كان يتصدَّق عنده ألف رِيال، كلما جاء فقير أعطاه منها، أنفق خمس مئة رِيال خالصة لله، وفي أثناء الإنفاق حضر أناسٌ فراءاهم، فهل تبطل الصدقة الأولى التي بها الإخلاص؟ لا. لماذا؟ لأن بعضها لا ينبني على بعض؛ كل درهم منفصل أو كل رِيال منفصل عن الذي قبله، هذه مسألة مهمة.
المسألة الثانية: أحيانًا يهاجِم الرياءُ القلبَ ويدافعه الإنسان يدافع، فهل يؤثر هذا على إخلاصِه؟
الجواب: لا يؤَثر ما دام يدافعه ويعرض عنه؛ لأنه الآن في جهاد لعدوه، والشيطان دائمًا يأتي الإنسان من كل وجه، قال الله تعالى عنه في سورة الأعراف: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: ١٦]؛ يعني: في كل مكان، يأتي الإنسان يثَبِّطُه عن العبادة، يثَبِّطُه عن طلب العلم، يثَبِّطُه عن صلة الرحم عن برِّ الوالدين، وما أشبه ذلك مما أوجب الله عليك، فإذا رأى منه تصميمًا على القيام بالعبادة أتاه من جهة أخرى وهو الغلو في العبادة والزيادة فيها والتنَطُّع والتكلف، فإذا عجز عنه من هذه الناحية أتاه من جهة النية أنك مراءٍ، ولكن الإنسان يجب عليه أن يدافع الشيطان بقدر ما يستطيع مستعينًا بالله عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة في قوله: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُغِنَى الله عز وجل، غِنى الله الغِنَى التام.
ووجه ذلك أنه إذا كان الله لا يقبَلُ إلا ما كان خالصًا دلَّ على غِناه عن عملِ العباد؛ لأنه -وحاشاه من ذلك- لو كان فقيرًا محتاجًا لذلك لاكتفى بما يأتيه منهم ولو على سبيل المشاركة، كالإنسان المحتاج يقبَل منك ما كان خاصًّا له وما كان مشترَكًا، فلما كان الله لا يقبل إلا ما كان خالصًا عُلِمَ بهذا غناه عن العباد، وإلى هذا يشير قوله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ» .
ثم قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىإلى آخره.
من فوائد هذه الآية: أن عابدي الأصنام قد توَلَّوا الأصنام واتخَذُوها أولياء.
ومن فوائدها أنهم -أي عباد الأصنام- يمَوِّهُون على الناس، يقولون: نحن ما نعبدُهم إلا لِغَاية وهي أن يقرِّبُونا إلى الله زلفى.
ومن فوائدها: أنه يمكن أن نعَدِّيَ هذا الحكم إلى جمِيع أهل الباطل؛ يدَّعون أنهم يحسِنُون صنعًا وهم كذَبَة.
ولنضرب لهذا مثلًا بأهل التعطيل: أهل التعطيل يدَّعون أنهم بتعطيلهم هذا منَزِّهُون لله وأنَّ قصدَهم تنزيهُ الله عز وجل عن النقص وعن مشابهة المخلوقين، وهم كاذبون في هذا؛ لأنهم إذا عطَّلُوه عن كمال صفاته فهو ضد التنزيه، هؤلاء يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، والحقيقة أن هذه العبادة تبعدهم من الله مسافات كثيرة.
من فوائد هذه الآية الكريمة: إقرار المشركين بأنهم يعبدون أصنامهم مَا نَعْبُدُهُمْ، فهم يصرحون بأنهم يعبدونهم لكن لا يقولون: نعبدهم لنتقرب إليهم بل ليقربونا.
ومن فوائدها: أن المشركين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يُقِرُّون بوجود الله، وأنه أعظَم من كل عظيم؛ لقولهم: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ، فهم معترِفُون بالله عز وجل وأنه أعظم من أصنامهم، ولهذا جعلوها وسيلة له أو للتقرب إليه.
ومن فوائدها: أنه سيكون بين هؤلاء المشركين وبين أوليائهم سيكون نزاع وخصومة يوم القيامة؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر: ٣].
ومن فوائدها: أن الحكم لله عز وجل وحده في ذلك اليوم -أعني يوم القيامة- وأنَّ المرجع إليه.
ثم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر: ٣] هذه الجملة مؤَكَّدة، كما تشاهدون مؤكدة بـإِنَّ. وقوله: لَا يَهْدِيالمراد بذلك هداية التوفيق، وأما هداية الدَّلالة فإنها حجة الله على خلقه لا بد أن تنال كل أحد، كما قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: ١٧]، هديناهم هداية؟
طالب: دلالة.
الشيخ: دلالة، إذن إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهداية توفيق لا هداية دلالة، بل هداية الدلالة ثابتة لكل أحد، لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌمَنْ هُوَأي: الذي هو كاذب.
قال المؤلف: (في نسبة الولد إليه) والذين نسَبُوا الولد إليه هم اليهود والنصارى والمشركون، ثلاثة؛ أما اليهود فقالت: عزيرٌ ابن الله، وأما النصارى فقالوا: المسيحُ ابن الله، وأما المشركون فقالوا: الملائكة بنات الله، والآية كما تشاهدون مَنْ هُوَ كَاذِبٌعامة، لكن كأن المؤلف خصَّصَها بنسبة الولد إلى الله؛ لقوله فيما بعد: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الزمر: ٤].
طالب: (...).
الشيخ: كأن المؤلف خصها بنسبة الولد إليه؛ لقوله تعالى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، وإلا فلو نظرنا إلى الآية كَاذِبٌ..