تفسير آيات من سورة الرحمن
مدة الملف
حجم الملف :
4969 KB
عدد الزيارات 1178

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الثالث والتسعون بعد المائة من اللقاءات المعروفة باسم (لقاء الباب المفتوح) التي تتم كل يوم خميس، وهذا هو يوم الخميس السابع من شهر شعبان عام (1419هـ). نبتدئ هذا اللقاء بالكلام على ما تبقى من سورة الرحمن.

تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان): 

قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن:62] أي: من دون الجنتين السابقتين جنتان من نوعٍ آخر. وقد جاء ذلك مبيناً في السنة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» والآية صريحة في أن هاتين الجنتين دون الأوليان ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۞ مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن:62-64] أي: سودوان من كثرة الأشجار ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:65].

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان): 

قال تعالى: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ [الرحمن:66] أي: تنضخ بالماء -أي: تنبت- وفي الجنتين السابقتين قال: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ [الرحمن:50] والجري أكمل من النبع؛ لأن النبع لا يزال في مكانه لكنه لا ينضب، أما الذي يجري فإنه يسيح، فهو أعلى وأكمل. ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:66-67].

تفسير قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان): 

قال تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن:68] وهناك يقول: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ [الرحمن:52] أما هذا فقال: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ والنخل والرمان معروفان في الدنيا، ولكن يجب أن تعلموا أنه لا يستوي هذا وهذا، الاسم واحد والمسمى يختلف اختلافاً كثيراً، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17] ولو كان النخل والرمان في الجنة كالنخل والرمان في الدنيا لكنا نعلم، لكننا لا نعلم، فالاسم إذاً واحد ولكن الحقيقة مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط" ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:68-69].

تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان): 

﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرحمن:70] (فيهن) في الأول قال: (فيهما) هل هناك فرق؟ الأول مثنى (فيهما) اثنين، وهذا (فيهن) جمع. كيف قال: (فيهن)، وقال قبل ذلك: (فيهما)؟ لأن هذا الجمع يعود على الجنان الأربع كلها، ففي الجنان الأربع (قاصرات الطرف) كما سبق، وفي الجنان الأربع (خيرات حسان) (فيهن) أي: في الجنان الأربع. (خيرات) خيرات في الأخلاق، أخلاق طيبة (حسان) الوجوه والهيكل، فالأول حسنٌ باطن، وهذا حسن ظاهر ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:70-71].

تفسير قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام): 

قال تعالى: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ [الرحمن:72] الحوراء هي الجميلة التي جملت في جميع خلقها، وبالأخص العين شديدة البياض شديدة السواد، واسعة مستديرة من أحسن ما يكون (مقصورات) أي: مخبآت (في الخيام) جمع خيمة، والخيمة معروفة، وهي بناء له عمو،د وأروقة، لكن الخيمة في الآخرة ليست كالخيمة في الدنيا، خيمة من لؤلؤن طولها في السماء مرتفع جداً، ويرى من في باطنها من ظاهرها، ولا تسأل عن حسنها وجمالها، هؤلاء الحور مقصورات مخبآت في هذه الخيام، على أكمل ما يكون من الدلال والتنعيم ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:73].

تفسير قوله تعالى: (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان): 

قال تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرحمن:74] أي: لم يجامعهن أحد، بل هي باقية على بكارتها إلى أن يغشاها زوجها إذا دخل الجنة، جعلنا الله وإياكم منهم ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ أي: ولا جن، وهذا يدل على أن الجن يدخلون الجنة مع الإنس، وهو كذلك؛ لأن الله لا يظلم أحداً، والجن منهم صالحون ومنهم دون ذلك، منهم مسلمون ومنهم كافرون، كالإنس تماماً.

كما أن الإنس فيهم مطيع وعاصٍ، فهم فيهم كافر ومؤمن، كذلك الجن، والجني المسلم فيه خير يدل على الخير، وينبأ بالخير، ويساعد أهل الصلاح من الإنس، والجني الفاسق، أو الكافر مثل الفاسق، أو الكافر من بني آدم، سواءً بسواء، كافرهم يدخل النار بإجماع المسلمين، كما في القرآن: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ﴾ [الأعراف:38] وهذا نص القرآن، وأجمع العلماء على أن كافر الجن يدخل النار، ومؤمن الجن يدخل الجنة، ولهذا سورة الرحمن ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ يعني: الجن والإنس. ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ [الرحمن:74] يدل على أن الجن يدخلون الجنة وهو كذلك. ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:74-75].

تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان): 

قال تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ [الرحمن:76] (متكئين) أي: معتمدين بأيديهم، وظهورهم (على رفرف) أي: على مساند ترفرف فيها رفرفة مثل الشلش الذي يكون في المساند، يكون في الأسرة هكذا يرفرف، متكئين على الرف الخضر؛ لأن اللون الأخضر أنسب ما يكون للنظر، وأشد ما يكون بهجة للقلب.

﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ العبقري: هو الفرش الجيدة جداً، ولهذا يسمى الجيد من كل شيء: عبقري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية التي رآها حين نزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "فما رأيتُ عبقرياً يفري فرية" أي: ينزع نزعة من قوته رضي الله عنه. ﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ۞ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن:76-77].

ومعنى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ التقرير، أي: أن النعم واضحة، فبأي شيءٍ تكذبون؟ الجواب: لا نكذب بشيء، نعترف بآلاء الله -أي: بنعمه- ونقر بها، ونعترف أننا مقصرون، لم نشكر الله تعالى حق شكره، ولكننا نؤمن بأن عفو الله أوسع من ذنوبنا، وأن الله تبارك وتعالى عفوٌ كريم يحب توبة عبده، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم» وذكر الرجل في فلاة أضل راحلته -ضيعها- وعليها طعامه وشرابه، فطلبها ولم يجدها وهو في فلاة من الأرض ليس حوله أحد، فأيس منها، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت -أي: يئس من الحياة- فإذا بخطام ناقته متعلق بالشجرة، فأخذه وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ماذا يريد؟ يريد: أنت ربي وأنا عبدك، لكن من شدة الفرح أخطأ، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل بناقته، اللهم تب علينا يا رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام): 

قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:78] ختم السورة بهذه الجملة العظيمة، أي: ما أعظم بركة الله عز وجل.

وما أعظم البركة باسمه، حتى إن اسم الله يحلل الذبيحة، أو يحرمها، لو ذبح إنسان ذبيحة ولم يقل: باسم الله، ماذا تكون؟ تكون ميتة حراماً نجسة، مضرة على البدن، حتى لو نسي، ذبحها ونسي أن يقول: بسم الله فهي حرام، نجسة، تفسد البدن، فيجب أن يسحبها للكلاب؛ لأنها نجسة، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام:121] فانظر البركة، الإنسان إذا توضأ ولم يسم فوضوءه عند بعض العلماء: وضوء فاسد لابد أن يعيده؛ لأن البسملة واجبة عند بعض أهل العلم.

يرى الإنسان الصيد الزاحف، أو الطائر فيرميه ولم يسم، ماذا يكون هذا الصيد؟ يكون حراماً، ميتة، نجساً، مضراً على البدن.

الإنسان إذا أتى أهله -يعني: جامع زوجته- وقال:  «باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا» كان هذا حمايةً لهذا الولد الذي ينشأ من هذا الجماع من الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً» الإنسان يسعى يميناً وشمالاً لحماية ولده، ويخسر الدراهم الكثيرة، وهنا هذا الدواء من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو غالٍ أم رخيص؟ رخيص، ومن حيث العمل سهل، هذا يحميه من الشيطان أبداً «باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا» كل هذا دليل على بركة اسم الله عز وجل، ولهذا قال: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:78] أي: ذي العظمة والإكرام.

هل الإكرام يعني: هو يُكَرم أم هو يُكِرم؟ كله، فهو يُكَرم، ويحترم، ويعظم، عز وجل، وهو -أيضاً- يُكِرم، قال الله تعالى في أصحاب الجنة -اللهم اجعلنا منهم- : ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [المعارج:35] فهو ذو الجلال والإكرام، يكرم من يستحق الإكرام، وهو يكرم عز وجل عباده الصالحون، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.

وإلى هنا تنتهي قراءاتنا في التفسير وبه تنتهي سورة الرحمن.