تفسير آيات من سورة الطور
مدة الملف
حجم الملف :
3997 KB
عدد الزيارات 1313

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة: فهذا هو اللقاء الثامن والخمسون بعد المائة من لقاءات الباب المفتوح التي تتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو السابع من شهر صفر عام (1418هـ).

تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء موراً): 

نبتدئ هذا اللقاء كالعادة بتفسير آيات من كتاب الله عز وجل، حيث انتهينا فيما سبق إلى قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ۞ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ۞ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [الطور:9-11]. هذه الجملة بل هذه المفردة ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ﴾ متعلقة بقوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور:7] أي: أن العذاب يقع في ذلك اليوم.

﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ۞ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ۞ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [الطور:9-11]. قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾ قد يظن ظان أن المصدر هنا (موراً) لمجرد التوكيد، ولكنه ليس كذلك بل هو لبيان تعظيم هذا الموقف، والمور بمعنى: الاضطراب، أي: أن السماء تضطرب، وتتشقق، وتتفتح، وتختلف عما هي اليوم عليه، كما قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ۞ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ۞ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ۞ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ۞ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الانفطار:1-5] ولا إنسان يتصور، أو يعلم حقيقة ذلك اليوم، ولكننا نعلم المعنى بما أخبر الله به عنه، أما الحقيقة فهي شيء فوق ما نتصوره الآن.

تفسير قوله تعالى: (وتسير الجبال سيراً): 

قال تعالى: ﴿وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً﴾ [الطور:10];أي: تسير سيراً عظيماً، وذلك أن الجبال تكون هباءً منثوراً، وتتطاير كما تتطاير الغيوم، وتسير سيراً عظيماً هائلاً لشدة هول ذلك اليوم، وهذه الآية تدل على أن قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل:88] لأن هذه الآية هي نفس هذه الآية التي في الطور من حيث المعنى، فيكون قوله تبارك وتعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل:88] أي: يوم القيامة ولا شك، ومن فسرها: بأن ذلك في الدنيا، وأنه دليل على أن الأرض تدور فقد حرف الكلم عن مواضعه، وقال على الله ما لا يعلم.

وتفسير القرآن ليس بالأمر الهين؛ لأن تفسير القرآن يعني أنك تشهد على أن الله أراد به كذا وكذا، فلابد أن يكون هناك دليل، إما من القرآن نفسه، وإما من السنة، وإما من تفسير الصحابة.

أما أن يحول الإنسان القرآن على المعنى الذي يراه بعقله، أو برأيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال بالقرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».

والمهم أن هذا التفسير أعني أن قوله: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل:88] يراد به في الدنيا تفسير باطل، لا يجوز الاعتماد عليه، ولا المعول عليه.

أما كون الأرض تدور أو لا تدور؟ فهذا يعلم من دليل آخر إما بحسب الواقع، وإما بالقرآن، وإما بالسنة، ولا يجوز أبداً أن نحمل القرآن معاني لا يدل عليها من أجل أن يؤيد نظرية، أو أمراً واقعاً لكنه لا يدل عليه اللفظ؛ لأن هذا أمر خطير جداً.

تفسير قوله تعالى: (فويل يومئذ للمكذبين): 

قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [الطور:11] (ويلٌ) كلمة وعيد وتهديد، وإن كان قد روي أنها وادٍ في جهنم، لكن الصواب أنها كلمة تهديد ووعيد ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ المكذبين لله ورسله، الجاحدين لما قامت الأدلة على ثبوته، فإنهم سيجدون في ذلك اليوم من العذاب، والنكال ما لا يخطر لهم على بال.

تفسير قوله تعالى: (الذين هم في خوض يلعبون): 

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ [الطور:12] (الذين هم) في الدنيا (في خوض) أي: في كلام باطل (يلعبون) أي: لا يقولون الجد، ولا يعملون بالجد، وإنما أعمالهم كلها لعب، ولغو، ولذلك تجد أعمارهم ليس فيها بركة، تمر بهم الليالي والأيام لا يستفيدون شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً): 

قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً﴾ [الطور:13] هذه متعلقة بما سبق أيضاً (ويدعون) بمعنى: يدفعون بعنف وشدة، ﴿إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً﴾ لأنهم والعياذ بالله تمثل لهم النار كأنها سراب، أي: كأنها حوض نهر، وهم على أشد ما يكون من العطش، فيذهبون إليها سراعاً يريدون أن يشربوا منها حتى يزول عنهم العطش، فإذا بلغوها، وإذا هي النار والعياذ بالله، فكأنهم -والله أعلم- يتوقفون لئلا يتساقطوا فيها فيدعون إليها دعاً أي: يدفعون بعنف وشدة فيتساقطون فيها.

أجارنا الله وإياكم من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون): 

يقال لهم: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور:14] كانوا في الدنيا يقولون: لا بعث، ولا جزاء، ولا عقوبة، ولا نار، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا بعث، فيقال: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ في الدنيا يكذبون بها ويقولون: لا نار، ولا بعث، ولا جزاء، فيوبخون على هذا الإنكار يوم القيامة، وما أشد حسرتهم إذا وبخوا على أمر كان في إمكانهم أن يتخلوا عنه، ولكنهم الآن لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، يقولون: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام:27] قال الله تعالى: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام:28] حتى لو ردوا إلى الدنيا عادوا وكذبوا فلن يستقيموا على أمر الله، لكن يقولون هذا تمنياً، ويقول العوام: التمني رأس مال المفاليس.

تفسير قوله تعالى: (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون): 

قال تعالى: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ [الطور:15] أي: أفهذا الذي ترون اليوم سحر كما كنتم تقولون ذلك في الدنيا حيث يقولون: إن ما جاءت به الرسل سحر، ويصفون الرسول بأنه ساحر، فيقال: ﴿أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ [الطور:15] يعني: لا تبصرون بعين البصيرة، بل أنتم عميٌ عن الحق والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون): 

قال تعالى: ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور:16] اصلوها، أي: احترقوا بها، والأمر هنا للإهانة كقوله تعالى: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۞ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ [الدخان:49-50] فانظر إلى هؤلاء كيف تتهكم فيهم الملائكة، وتذلهم، وتخزيهم -والعياذ بالله- وتهينهم ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي: أن الصبر وعدمه سواء عليكم;،ومعنى هذا: أنه لن يفرج عنكم سواء صبرتم، أم لم تصبروا، مع أنهم في الدنيا إذا أصيب الإنسان بشيء وصبر، فإنه يفرج عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً».

﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: ما تجزون إلا ما عملتموه فلم تظلموا شيئاً، ثم ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ۞ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۞ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور:17-19] إلى آخر الآيات، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله مستقبلاً.