تفسير آيات من سورة الذاريات
مدة الملف
حجم الملف :
3516 KB
عدد الزيارات 1137

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الحادي والخمسون بعد المائة من اللقاءات التي تسمى لقاء الباب المفتوح، التي تتم كل يوم خميس من كل أسبوع، وهذا الخميس هو الحادي عشر من شهر ذي القعدة عام 1417هـ. نفتتح هذا اللقاء كجاري العادة بالكلام على شيء من تفسير كلام الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين): 

انتهينا فيما سبق إلى قوله تعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [الذاريات:43] ثمود: هم الذين أرسل الله إليهم نبيه صالحاً عليه الصلاة والسلام، فوعظهم، وذكرهم، وجعل لهم آية وهي الناقة التي شرفها الله تعالى بإضافتها إلى نفسه الكريمة، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿فقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ [الشمس:13] أي: احذروا ناقة الله أن تعبثوا فيها، أو تنكروها.

وهذه الناقة لها بئر تشرب منه يسمى: بئر الناقة، ولهم ﴿شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء:155] يشربونه، فالناقة تشرب يوماً وهم يشربون يوماً، وهذه الناقة ذكروا أنه ما جاء أحد يستقي من هذا البئر في يومها الذي تشرب منه إلا أخذ بدل شربها شيئاً من لبنها بقدر ما شربه، فالله أعلم هل هذا هو الواقع، أو يختلف، لكن على كل حال فهذه الناقة لا شك أنها ناقة ليست كسائر النوق، إذ أنها آية من آيات الله عز وجل، لكنهم كذبوا، وأبوا، وتوعدهم صالح عليه الصلاة والسلام أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، ولكنهم ما زالوا على كفرهم وإنكارهم، ولهذا قالوا: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [الذاريات:43]. وديارهم معروفة الآن موجودة في مكان يسمى الحجر، ويسمى الآن ديار ثمود، وقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك لكنه عليه الصلاة والسلام أسرع حين مر من هذه الديار، وقنع رأسه، ونهى أمته أن يدخلوا إلى هذه الأماكن -أماكن المعذبين- إلا أن يكونوا باكين، قال: «فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها أن يصيبكم ما أصابهم» وقوله: (يصيبكم ما أصابهم) لا يلزم منه أن يراد به ما أصابهم من العذاب الحسي، قد يكون المراد ما أصابهم من العذاب الحسي وما أصابهم من الإعراض والكفر.

فلو قال قائل: إنه يوجد أناس يذهبون إلى هذه الأماكن وهم غير باكين ولم يصابوا بشيء، نقول: الجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤكد أن يصابوا بهذا، ولكنه قال: خوفاً، أو خشية أن يصابوا بما أصاب هؤلاء.

الوجه الثاني: أن نقول: لا يتعين أن يكون المراد بذلك أن يؤخذوا بما أخذ به هؤلاء من العقوبة الحسية الظاهرة، وهي الرجفة والصيحة التي أماتتهم عن آخرهم، قد يكون المراد بذلك مرض القلب الذي هو الاستكبار والإعراض ورد الحق ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ هذا الحين هو ثلاثة أيام.

تفسير قوله تعالى: (فعتوا عن أمر ربهم ..): 

قال تعالى: ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ [الذاريات:44] ولم يرجعوا عن غيهم ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الذاريات:44] الصاعقة التي صعقتهم هي رجفة وصيحة، ﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينظر بعضهم إلى بعض يتهاوون ويتساقطون أمواتاً.

تفسير قوله تعالى: (فما استطاعوا من قيام ...): 

قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ [الذاريات:45] أي: ما استطاعوا أن يقوموا ﴿وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ أي: لم يتمكن بعضهم أن ينصر بعضاً بل كلهم هلكوا عن آخرهم.

وهكذا يفعل الله سبحانه وتعالى بمن كذب رسله عليهم الصلاة والسلام، إلا أن العذاب المستأصل رفع عن هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه وتعالى ألا يأخذهم بسنة عامة، أي: بعقوبة عامة، لكن ابتلوا بشيء آخر وهو أن يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، والأمر كذلك وقع، فإن هذه الأمة لم تصب بعذاب عام كما أصيبت الأمم من قبلها، ولكن أصيبت بأن جعل الله بأسهم بينهم، منذ زمن الخلفاء الراشدين كما اختلفوا على عثمان، وعلى علي رضي الله عنهما، وحصلت الفتن تتوالى إلى يومنا هذا.

ثم هذه الأمة التي جعل بأسها بينها ليست هي أمة الإجابة فقط، بل أمة الإجابة وأمة الدعوة، ولهذا نقول: ما حصل من الفتن والبلاء في الأرض مشارقها، ومغاربها من الكفار، وغير الكفار، فإنما هو نتيجة للمعاصي، وهي عقوبة هذه الأمة أن الله يذيق بعضهم بأس بعض.

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا...): 

قال تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ [الذاريات:46] أي: اذكر قوم نوح من قبل وهم أول أمة أرسل إليهم الرسول، ولكنهم كذبوا، وهذا الرسول نوح عليه الصلاة والسلام بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ويذكرهم، ويعظهم، ولكنهم -والعياذ بالله- لم يؤمنوا ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:40] حتى إنه عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ [نوح:7] ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ لئلا يسمعوا ما يقول ﴿وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ﴾ أي: تغطوا بها لئلا يبصروه -نسأل الله العافية- وهذا غاية ما يكون من البغضاء لما يقول، وما يفعل ﴿وَأَصَرُّوا﴾ على باطلهم ﴿وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً﴾ [نوح:7]. فكان آخر ما قال عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ [نوح:26] ودعا ربه: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر:10] قال الله تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ  ۞ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر:11-12] ولهذا -والله أعلم- سيكون عليهم نصيب من عذاب المكذبين؛ لأنهم هم أول أمة كذبت الرسل «ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» كما أن من قتل نفساً فإن على ابن آدم الذي قتل أخاه كفلاً ونصيباً من عذاب القاتل إلى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون): 

قال عز وجل: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47] (السماء) مفعول لفعل محذوف تقديره: وبنينا السماء، وقوله: (بأيدٍ) أي: بقوة، كما قال الله عز وجل: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ:12] فالأيدي هنا أي: القوة، وليست جمع يد كما يظنه بعض الناس، بل هي مصدر (آد يئيد أيداً) كما يقال: باع يبيع بيعاً.

﴿بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ أي: بقوة، والإنسان إذا تأمل وتفكر في السماوات عرف أنها قوية شديدة عظيمة، وأن قوتها تدل على قوة بانيها عز وجل

﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ أي: لموسعون لأرجائها، ولهذا كانت السماوات أكبر بكثير من الأرض وهي محيطة بالأرض من كل جانب، وعلى هذا فتكون أوسع من الأرض، وليست الأرض بالنسبة للسماء إلا شيئاً يسيراً.

تفسير قوله تعالى: (والأرض فرشناها فنعم الماهدون): 

قال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا﴾ [الذاريات:48] أي: فرشناها لأهلها، جعلناها لهم كالفراش يأوون إليها ويتمتعون بها، لم يجعلها الله تعالى صعبة، ولا سهلة، بل هي متوسطة، لو كانت لينة رخوة ما تمكن أحد من البقاء عليها، ولو كانت صعبة ما تمكن أحد من الانتفاع بها، ولكنها كانت كما وصفها الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك:15].

ثم قال: ﴿فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾[الذاريات:48] أثنى تبارك وتعالى على نفسه أن جعل هذه الأرض مهاداً للناس يتمتعون بها على ما تقتضيه مصالحهم.