تفسير آيات من سورة (ق)
مدة الملف
حجم الملف :
3829 KB
عدد الزيارات 1243

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الثلاثون بعد المائة من اللقاءات التي تسمى (لقاء الباب المفتوح)، والتي تتم كل خميس في كل أسبوع، وهذا الخميس هو الثامن عشر من شهر صفر عام (1417هـ). نبتدئ هذا اللقاء بالاستمرار في تفسير سورة ق، وقد وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ۞ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق:4-5]

قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق:6] الاستفهام هنا للتوبيخ، يوبخهم عز وجل، لماذا لم ينظروا في هذا؟! لماذا لم ينظروا إلى السماء، وما فيها من عجائب القدرة الدالة على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون؟!

وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ﴾ يشمل نظر البصر، ونظر البصيرة، نظر البصر يكون بالعين، ونظر البصيرة يكون بالقلب، وهو: التفكر. وقوله: ﴿إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾ قد يقول قائل: إن كلمة (فوقهم) لا فائدة منها؛ لأن السماء معروفة أنها فوق، ولكن نقول: إن النص على كونها فوقهم إشارة إلى عظمة هذه السماء، وأنها مع علوها وارتفاعها وسعتها وعظمتها تدل على كمال خالقها وقدرته جل وعلا.

﴿كَيْفَ بَنَيْنَاهَا﴾؟ بناها الله عز وجل بقوة، وجعلها قوية، فقال جل وعلا: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ:12]؛ أي: قوية، وقال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ [الذاريات:47]؛ أي: بقوة ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات:47] . وهذا البناء لا نعلم كيف بناه الله عز وجل، لكننا نعلم أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، خلق الأرض في أربعة أيام، والسماء في يومين، كما قال تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت:12] .

وقوله: ﴿وَزَيَّنَّاهَا أي: حسَّنَّا منظرها بما خلق الله تعالى فيها من النجوم العظيمة، المنيرة، المنتظمة في سيرها، وهذه النجوم قال قتادة رحمه الله -وهو من أئمة التابعين-: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينةً للسماء، وعلامات يُهتَدى بها، ورجوماً للشياطين، فمن ابتغى فيها شيئاً سوى ذلك فقد أضاع نصيبه، وتكلَّف ما لا علم له به" يشير إلى ما ينتحله المنجمون من الاستدلال بحركات هذه النجوم على الحوادث الأرضية، حتى إنهم يبنون سعادة الشخص وشقاءه على هذه النجوم.

مثلاً: يقولون: إذا وُلِد في النجم الفلاني فهو سعيد، وإذا ولد في النجم الفلاني فهو شقي، وهذا لا أثر له، أي: أن تحركات النجوم في السماء ليس لها أثر فيما يحدث في الأرض.

ثم قال تعالى: ﴿وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ يعني: ليس في السماء من فروج؛ أي: مِن فُطور وتشقُّق، بل هي مبنية محكمة قوية.

﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق:7] هذه ثلاثة أمور:

أولاً: الأرض مدها الله عز وجل: مع أنها بالنسبة للسماء صغيرة جداً، لكنها ممدودة للخلق مسطحة لهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية:20].

ثانياً: ألقينا فيها رواسي؛ أي: جبالاً ثابتات لا تزعزعها الرياح فهي راسية وكذلك أيضاً مُرسية للأرض. ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾؛ أي: من كل زوج سارٍّ لناظره، والمراد بالزوج هو الصنف؛ أي: أن ما ينبت في الأرض أصناف متعددة متنوعة حتى أنك ترى البقعة من الأرض وهي صغيرة تشتمل على أنواع من هذه الأصناف تختلف في ألوانها, وتختلف في أحجامها، وتختلف في ملمسها ما بين شديدة وليِّنة إلى غير ذلك من الاختلافات العظيمة، بل إنها تختلف حتى في مذاقها إذا كانت من ذوات الثمر، كما قال تعالى: ﴿وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾ [الرعد:4] فمَن القادر على هذا؟! إنه الله تعالى القادر على أن يخلق هذه الأشياء التي فيها من كل زوج بهيج مع أنها في مكان واحد، وتُسقى بماء واحد، والأرض أيضاً واحدة. مَن يقدر على هذا؟! إنك تأتي الأرض المعشبة التي أنبت الله تعالى فيها من أصناف النبات فتتعجب، ترى هذه -مثلاً- زهرتها صفراء، وهذه بيضاء، وهذه بنفسجية، وهذه منفتحة، وهذه منظمة، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة، فهذا أكبر دليل على أن الله قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق:3] . فالقادر على خلق هذه المخلوقات العظيمة قادر على إحياء الموتى، ثم يقال: مَن الذي خلق الإنسان؟ هو الله، وإعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم:27] فإذا كنتم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق وأنه هو الذي خلقكم وأوجدكم فلماذا تنكرون أن يعيدكم الله، مع أن أمره ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82]؟!

﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق:8]؛ أي: أن الله تعالى حثنا على أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض وما يحدث فيهما. ﴿تَبْصِرَةً أي: لأجل التبصرة والذكرى.

قال العلماء: الفرق بين التبصرة والذكرى: أن التبصرة مستمرة، والذكرى عند النسيان، فهذه الآيات تُذَكِّرك إذا نسيتَ، وتبصِّرك إذا جهلت.

وقد يقال: إن الفرق بينهما: أن التبصرة في مقابل الجهل، والذكرى في مقابل النسيان. وكلا القولين حق.

المهم أنك إذا نظرت إلى السماء وإلى الأرض وما فيها مما أودعه الله عز وجل من النبات، فإنك سوف تبصر بقلبك وتذكر أيضاً إذا نسيت، ولكن لمن هذه التبصرة والذكرى؟ ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق:8] : ليست لكل إنسان، ما أكثر ما ينظر الكفار في الآيات! ولكن ﴿وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس:101] إنما الذي ينتفع بها هم من قال الله عنهم: ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق:8]؛ أي: رجَّاع إلى الله عزَّ وجلَّ.

نسأل الله أن يعيدنا وإياكم عوداً حميداً، وأن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً.