من أحكام الحج
مدة الملف
حجم الملف :
8084 KB
عدد الزيارات 2973

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الإخوة:

فهذا هو اللقاء الأول الذي نلتقي به بعد شهر رمضان، هذا اللقاء الذي كان بعد شهر رمضان، لقاء بعد عمل، قال فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه» وأرجو أن نكون جميعاً ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً حتى يحصل لنا هذا الخير الكثير؛ أن يغفر لنا ما تقدم من الذنوب، ونسأل الله تعالى أن يقينا من الذنوب بعد هذا الخلاص منها، فإن الإنسان إذا خلص من الذنوب أصبحت صحيفته بيضاء، وأصبح قلبه منيراً، وحسنت أعماله، فإن ثبت على ذلك كان دليلاً على قبول الله -سبحانه وتعالى- لعمله، وإن كانت الأخرى فليتب إلى الله -عز وجل- وليصلح ما بقي لعله يستدرك ما مضى.

ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته جعل بعد هذا الشهر مباشرة شهور الحج إلى بيت الله، والحج إلى بيت الله قال فيه النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» أي: من الذنوب؛ خالصاً منها، نقياً منها، كما أنه حين خرج من بطن أمه ليس له ذنب، فهو يرجع من الحج وليس له ذنب، وبهذا نعلم أن الله -سبحانه وتعالى- أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فما انقضى شهر الصيام الذي يكون سبباً لمغفرة الذنوب حتى جاءت شهور الحج التي هي -أيضاً- سبب لمغفرة الذنوب، وإننا في هذا اللقاء نتكلم يسيراً عن شيء مما يتعلق بالحج. 

مكانة الحج في الشريعة:
أولاً: الحج ركن من أركان الإسلام، لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين سأله جبريل قال: أخبرني عن الإسلام، قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» وقد أجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن من أنكر فرضيته فهو مرتد عن الإسلام، ومن تهاون فيه فهو على خطر؛ يعني: من تركه مع وجوبه عليه فهو على خطر عظيم، حتى إن الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية عنه قال: إنه يكفر، كما لو ترك الصلاة، لكن القول الصحيح أنه لا يكفر، ولكنه على خطر: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:97] فالحج فريضة، لكنه لا يجب إلا بشروط أهمها: الاستطاعة: أن يكون الإنسان مستطيعاً بماله وبدنه، ولا يكون مستطيعاً بالمال إلا أن يكون المال فاضلاً عن حاجاته وقضاء ديونه، فاضلاً عن حاجاته؛ أي: ما يحتاج إليه في بيته من طعام وشراب وأواني وفرش وغيرها من الحاجات التي لا بد منها، فإذا قدر أن شخصاً عنده مال لكن يحتاج إلى أواني في البيت، فهل يشتري الأواني ويدع الحج، أو يحج ويدع الأواني، الأول أم الثاني؟ الأول، نقول: اشتر الأواني؛ لأنها من الحوائج التي لا بد منها، ثم إن بقي شيء فحج به وإلا فلا، لا بد أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن الدين، والدين: ما وجب في الذمة من ثمن مبيع أو ثمن أرض أو أجرة أو غير ذلك، ليس الدين خاصاً بالمداينة كما هو معروف عند العامة، لا، الدين شرعاً: كل ما ثبت في الذمة، حتى القرض الذي يقترضه الشخص يكون ديناً عليه، حتى أجرة البيت للسكنى يكون ديناً، فلا بد أن يكون المال الذي تحج به فاضلاً عن الديون، فإن كان عليك دين فإن الحج لا يجب عليك، حتى الفريضة لا تجب عليك، فإذا قدر أن شخصاً من الناس بيده ألف ريال، وعليه دين ألف ريال، فهل يقضي الدين بالألف ويدع الحج، أو يحج ويبقى الدين في ذمته؟ الأول، فنقول: أوف الدين ثم حج؛ لأنك إذا مت وأنت لم تحج وإنما قضيت الدين مت وأنت بريء من الدين، ولكن لو حججت وبقي الدين في ذمتك ومت، فإن نفسك معلقة بالدين بعد الموت، وبهذا نعرف خطأ كثير من الناس الذين يحجون وعليهم ديون، وإذا قلت: يا أخي الدين مقدم، قال: ديني بمائة ألف والحج بألفين، والألفين ما تساوي شيئاً بالنسبة لمائة ألف، هل هذا منطق صحيح؟ لا، إذا كان عليك مائة ألف وأديت ألفين، يبقى عليك ثمانية وتسعون ألفاً، أي: فقد سقط شيء من الدين وليس عليك إثم في عدم الوفاء بالثمانية والتسعين؛ لأنك لم تقدر، ولكن قد يكون عليك إثم إذا حججت بألفين وتركت الوفاء، وهذه مسألة يجب أن نتنبه لها نحن، وأن ننبه عليها إخواننا؛ لأن كثيراً من محبي الخير الحريصين على الحج يحج وهو غارق في الديون بحجة أن المال الذي عنده لا يفي بالدين، لكنه يفي ببعض الدين، حتى لو فرض أنه ريال واحد، وعليك مائة ألف، فإذا أوفيت كم يبقى عليك؟ مائة ألف إلا ريال، فقد سقط عنك من ذمتك شيء، ولا تستهن بالدين فالدين شديد، ألم تعلموا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان إذا قدم إليه الرجل ليصلي عليه سأل: هل عليه دين أم لا؟ إذا قالوا: عليه دين وليس له وفاء، ترك الصلاة عليه، وقال: «صلوا على صاحبكم» مع أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمؤمنين رءوف رحيم ومع ذلك كان يترك الصلاة على الميت الذي هو محتاج إلى الصلاة عليه من أجل الدين، جيء إليه في يوم من الأيام برجل مدين ميت، فقدم إليه، فلما خطا خطوات ليصلي عليه، قال: «هل عليه دين؟» قالوا: لا نعلم عليه إلا دينارين فقط، فقال: «صلوا على صاحبكم، وترك الصلاة عليه» فقام أبو قتادة -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله الديناران علي -التزم بها أبو قتادة في ذمته- قال: حق الغريم، وبرئ منها الميت؟ قال: نعم. فتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، الشهادة في سبيل الله لا تكفر الدين؛ وسئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الشهادة: هل تكفر الذنب؟ قال: «نعم كل شيء». فلما أدبر الرجل دعاه، وقال له: «إلا الدين؛ أخبرني بذلك جبريل آنفاً» الدين حتى الشهادة لا تكفره، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نتهاون بالدين؟! وإني لأعجب من قوم مدينين عليهم ديون كثيرة ثم يذهب أحدهم يستدين، يشتري من فلان أو فلان أثاثاً للبيت زائداً عن الحاجة، يشتري كساء للدرج؛ لأن الدرج ليس عليه كساء، يفرش الدرج وهو فقير عليه ديون، هذا سفه في العقل وضلال في الدين! هناك قصة وقعت في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام-: جاءت امرأة للرسول -عليه الصلاة والسلام- وقالت: إني وهبت نفسي لك، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يجوز له أن يتزوج الهبة، أما نحن فلا يجوز لنا أن نتزوج بالهبة، لو جاءت امرأة تقول لك: إني وهبت نفسي لك، فقلت: قبلت، ما صارت زوجتك، لكن لو جاءت للرسول -عليه الصلاة والسلام- وقالت: وهبت نفسي لك، فقال: قبلت، فإنها تصير زوجة له، قال الله تعالى: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأحزاب:50] وهذا خاص بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، جاءت هذه المرأة تقول: يا رسول الله وهبت نفسي لكفصعد بها النظر ثم صوبه فصعد بها النظر وصوبه -نظر إلى أعلى بدنها وأسفل بدنها- ثم لم يرغب فيها، فسكت، فجلست المرأة، فقام رجل قال: يا رسول الله -استمع إلى الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، ما عمل بالقرائن، وقال: إن سكوت الرسول دليل على أنه لا يريدها، ما عمل بهذا تأدباً مع الرسول واحتياطاً، قال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-: «أمعك شيء؟» يعني صداق، قال: نعم، إزاري، الرجل ما عليه إلا إزار، يعني أعلى بدنه مكشوف ليس عليه رداء، سبحان الله! إزارك إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن لبسته بقيت بلا مهر، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «التمس ولو خاتماً من حديد» انظر ولو خاتماً من حديد، وباللغة العامية (فتخة) فذهب الرجل يبحث فلم يجد، فرجع، وقال: ما وجدت شيئاً، قال: «هل معك شيء من القرآن؟» قال: نعم، معي سورة كذا وكذا، قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» فزوجه بما معه من القرآن.

سؤال: هل قال: اذهب تسلف وتدين؟

اجابة: لا، مع أن الرجل في حاجة، مع ذلك ما قال: اذهب فتدين أو تسلف واجعله مهراً، كل هذا لتحاشي الدين، الدين كما يقول العامة: الدين ذل في النهار وسهر في الليل، ولكن هذا لمن كان قلبه حياً، أما من كان قلبه ميتاً فالدين عنده شربة ماء فلا يهتم، يستدين من هذا الرجل مائة ألف ويذهب للثاني يستدين مائة ألف، وهو ما عنده ولا قرش، هذا والله سفه في العقول وضلال في الدين، احم ذمتك، ولا تجعل في ذمتك ديناً إلا لضرورة، أقول هذا تفريعاً على قولنا: إنه لا يجب الحج على من كان عليه دين، وأن الواجب أن يقضي دينه أولاً، ثم بعد ذلك يحج، وليحمد الله على تيسيره، فلو كان الله ألزمنا أن نحج ولو بالاستدانة صار الأمر صعباً، فالحمد الله على التيسير.

تقديم الزواج والحاجات الأصلية على الحج:
سؤال: رجل عنده مال ولكنه محتاج للزواج فهل يحج بالمال أم يتزوج؟

الجواب: يتزوج بالمال؛ لأن الزواج من الحوائج، بل أحياناً يكون من الضرورات، فهذا الرجل الذي جاءنا يسأل يقول: أنا عندي مال إن حججت به ما تزوجت، وإن تزوجت ما حججت، نقول: تزوج ولا تحج، ولكنك إذا قلت هذا ثار عليك العامة، والعوام هوام يقولون: يتزوج ويترك الفريضة ما يكمل دينه، وأركان الدين خمسة، الحج منها كيف تتركه يتزوج وينال شهوته ويترك فريضة وركناً من أركان الإسلام؟ العامي يقول هكذا، ماذا نقول له؟ نقول له: حتى الآن لم تكن فريضة عليه؛ لأنها لا تكن فريضة إلا بعد أن يتخلص من كل شيء، من الديون، ومن حاجاته الأصلية، ومن كل ما يحتاجه.

السؤال: إنسان طالب علم محتاج إلى كتب لا يتم طلبه للعلم إلا بها ولم يحج، وعنده فلوس إن اشترى الكتب ما حج، وإن حج ما اشترى الكتب، فماذا يعمل؟

الجواب: يشتري الكتب ولا يحج، نقول: اشتر من الكتب ما تحتاج، ولا تجعل مكتبة كبيرة عالمية، بل اشتر ما تحتاج وحج بعد ذلك؛ لأن الله قال: ﴿مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97] والحاجة للكتب كالحاجة للطعام والشراب، وقد تكون أشد، طالب العلم الحقيقي الذي يريد العلم يرى أن الكتب له بمنزلة الطعام والشراب، بل أشد، فإذا كان الإنسان عليه دين فيقدم الدين على الحج، إذا كان يحتاج حاجات أصلية فيقدم الحاجات الأصلية، وبهذا تحصل للإنسان الطمأنينة.

الدَّين لا يمنع صحة الحج:

السؤال:

أنا سأحج مع قوم لا أنفق شيئاً، هم طلبوا مني أن أكون رفيقاً لهم لأنني رجل نشيط، أكفيهم عمل القهوة والطبخ وما أشبه ذلك، وأنا ما أخسر شيئاً وعلي دين هل أحج مع هؤلاء؟

الجواب:

يحج إذن، الدين ما يمنع الحج، بعض العوام يظنون أن الذي عليه دين لا يحج؛ لأن الحج ما يصلح منه، وهذا غير صحيح، الدين يمنع وجوب الحج لكن لو حج الإنسان بدون ضرر -يعني بدون أن يبذل مالاً- فإن ذلك لا بأس به، بل قد نقول: إنه فريضة في حقه؛ لأنه يدخل في قول الله تعالى: ﴿مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾[آل عمران:97].
وجوب المحرم في حج المرأة، ثم إن من المهم أن نعلم أنه لا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت المحرم، فمن لم تجد المحرم فلا حج عليها حتى لو كانت غنية، لأنها تستطيع حساً أن تذهب مع الناس وتحج، لكن شرعاً لا تستطيع؛ لأنه لا يجوز أن تسافر بلا محرم حتى للحج، والدليل قال ابن عباس -رضي الله عنه- وعن أبيه: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يقول: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل وقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة وإنني اكتتب في غزوة كذا وكذا فقال -عليه الصلاة والسلام-: «انطلق فحج مع امرأتك» فأمره أن يدع الغزو من أجل أن يحج مع امرأته، فدل ذلك على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم ولا للحج، ولا يغرنك تهاون الناس بهذا، عليك بطاعة الله ورسوله ولا تلتفت إلى أحد ما دام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يخطب الناس يعلن على المنبر يقول: «لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم» فإن الله يقول عن المؤمنين إنهم يقولون: سمعنا وأطعنا: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36] انظر يا أخي! إذا رأيت نفسك إذا أمرك الله ورسوله بشيء تختار غير أمر الله ورسوله فاعلم أنك ناقص الإيمان: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً﴾ [الأحزاب:36] إيش ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:36] بل يقولون: سمعنا وأطعنا، وينقادون أتم انقياد، هكذا المؤمن، فإذا قدر أن المرأة ماتت وعندها أموال عظيمة وليس لها محرم هل تأثم؟ لا، لا تأثم؛ لأنها ستقابل الله -عز وجل- فإذا قال لها: لماذا لم تؤدي الحج؟ تقول: قال نبيك: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا حج عليها ليس عليها حج؛ لأنها غير قادرة شرعاً، والعجز الشرعي كالعجز الحسي ولا فرق.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، والآن يجيء دور الإجابة على الأسئلة.