تفسير آيات من سورة النبأ
مدة الملف
حجم الملف :
3855 KB
عدد الزيارات 2379

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإننا في هذا الخميس السادس والعشرين، من شهر ربيع الثاني عام (1413هـ) نختتم لقاءات هذا الشهر؛ لأنه اللقاء الرابع، وإن كان في أول الشهر قد حصل التخلف لعذر، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل هذه الاجتماعات مطردة، وأن يبارك فيها لنا ولإخواننا، وأن يرزقنا جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح، إنه جوادٌ كريم.

والآن نكمل ما ابتدأنا به من تفسيرٍ موجز لآخر أجزاء القرآن الكريم، وهو جزء عم؛ وذلك لأن هذا الجزء يكثر سماعه من الأئمة في صلواتهم، لهذا اخترنا بعد اختياركم أن نتكلم عليه كلاماً موجزاً، فآخر آية تكلمنا عليها في الأسبوع الماضي هي قوله -تعالى-: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ۞ وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ۞ وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾ [النبأ:12-14].

تفسير قوله تعالى: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾:

يقول الله -عز وجل- : ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً﴾ [النبأ:12] أي: قوية متينة، وهي: السماوات السبع، وقد جاء ذكر السماوات مقيدة بالسبع في القرآن الكريم في قوله -تعالى-: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المؤمنون:86]، أما الأرضون فجاءت مقيدة بهذا العدد في السنة مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله بها يوم القيامة من سبع أرضين» وجاءت في القرآن الكريم مقيدةً بهذا العدد على وجه الإشارة في قوله -تعالى-: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق:12] فقوله: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:12] لا يتأتى فيه إلا المماثلة في العدد؛ لأن المماثلة في الكيفية متعذرة، إذ أن هناك فرقاً بين السماوات والأرض، في الكيفية، والصفة، والسعة، والقوة، فتعين أن يكون المراد (مثلهن) في العدد.

تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾

ثم قال -تعالى-: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾ [النبأ:13] وهي هذه الشمس، فإنها سراج الأرض ووهج شديدة الحرارة، ودليل ذلك: أننا نحس بحرارتها، وبيننا وبينها هذه المسافة العظيمة، ولا سيما في أيام الصيف، إذا كانت قريبة من الرءوس عمودية فوقنا، ولا يخفى على أهل العلم بطبائع النبات، والبحار والصحاري ما يكون من الفائدة العظيمة في هذه الحرارة على الأعيان وعلى الصفات، ولهذا أكد الله -عز وجل- ذلك بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾ [النبأ:13] أي: يتوهج.

تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً﴾

قال -تعالى-: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاًه﴾ [النبأ:14] (المعصرات) هي السحب، وسميت معصرات؛ لأنها بمنزلة الذي يعصر الماء من الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب، ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، قال الله -تعالى-: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [النور:43] وقوله: (ثجاجاً) أي: كثير الثج يعني: الانهمار؛ وذلك لغزارته، وقوته حتى يروي الأرض.

تفسير قوله تعالى: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً ۞ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاًه﴾

قال -تعالى-: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً ۞ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاًه﴾ [النبأ:15-16] الحب والنبات هو الزروع، وهو النبات الذي ليس له ساق ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً﴾ [النبأ:16] هي الأشجار التي لها ساق، فيخرج بهذا الماء الثجاج الزروع، والنخيل والأعناب، وغيرها، سواء خرج منه مباشرة، أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض, هو من المطر كما قال -تعالى-: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ [الحجر:22] وقال -تعالى- في آية أخرى: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر:21] وقوله: ﴿أَلْفَافاً﴾ أي: ملتفة بعضها على بعض، حتى إنها لتستر من فيها؛ لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض.

تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾:

ثم قال -تعالى-: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً﴾ [النبأ:17] وهو يوم القيامة، وسمي يوم الفصل؛ لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق، وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه -أيضاً- بين أهل الجنة والنار، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى:7] و ﴿كَانَ مِيقَاتاً﴾ يعني: موقوتاً لأجل معدود، كما قال -تعالى-: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ [هود:104] وما ظنك بشيءٍ له أجل معدود، وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعاً يوماً بعد يوم، حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يوماً بعد يوم، حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال -تعالى-: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾ [هود:104] وكل شيء معدود فإنه ينتهي.

تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾:

قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ:18] والنافخ فيها إسرافيل موكلٌ فيها فينفخ فيها نفختين؛ الأولى: يفزع الناس، ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم، وتعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ:18] وفي الآية -كما لا يخفى- إيجاز بالحذف أي: فتحيون فتأتون أفواجاً، فوجاً مع فوج، أو فوجاً يتلو فوجاً، وهذه الأفواج -والله أعلم- بحسب الأمم، كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً بهذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض، فيذرها الله -عز وجل- ﴿قَاعاً صَفْصَفاً ۞ لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً﴾ [طه:106-107].

تفسير قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾:

وفي ذلك اليوم يقول الله -عز وجل-: ﴿وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ [النبأ:19] فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً, تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله -عز وجل- أن هذه السبع الشداد يجعلها الله يوم القيامة، كأن لم تكن، تكون أبواباً: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ۞ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ۞ وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ [المعارج:8-10].

تفسير قوله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾

قال -تعالى-: ﴿وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ [النبأ:20] أي: أن الجبال العظيمة الصماء تدك، فتكون كالرمال، ثم تكون كالسراب تسير: ﴿وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ [النبأ:20]، ثم قال -تعالى-: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ [النبأ:21].

وندع ذلك للأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.