فضل العشر من ذي الحجة
مدة الملف
حجم الملف :
20790 KB
عدد الزيارات 8136

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإننا في هذه الليلة ليلة السابع عشر من شهر ذي القعدة عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف نلتقي بإخواننا كجاري العادة في اللقاءات الشهرية التي نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بها وينفع كل من بلغته من الناس.

وبما أن شهر ذي الحجة قد قرب والمسملون يتهيئون إلى الحج إلى بيت الله الحرام رأيت من المناسب أن يكون لقاؤنا هذه الليلة حول هذين الموضوعين:

الموضوع الأول: عشر ذي الحجة، هذه العشر قال فيها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وبناءً على هذا الحديث الشريف: ينبغي لنا أن نجتهد في الأعمال الصالحة في هذه الأيام العشر من الصيام والذكر وقراءة القرآن، وكثرة الصلاة والصدقة والإحسان إلى الخلق، وغير ذلك مما يقرب إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل الصالح في الأيام العشرة الأخيرة من رمضان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عمم تعميماً مؤكداً بمن فقال: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» وينبغي لطلاب العلم أن يبثوا الوعي بين الناس في فضائل هذه الأيام العشر؛ لأن الناس عنها غافلون، وبفضلها جاهلون، فيحتاجون إلى التذكير وإلى المعرفة والعلم، وآكد أيامها في الصيام يوم عرفة، فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» وأما ما يفعله بعض الناس من تخصيص السابع والثامن والتاسع بالصوم ظناً منهم أن لذلك مزية، فهذا غلط، لكن من كان من عادته أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر وصام السابع والثامن والتاسع عن الأيام التي كان يعتادها فلا بأس، أما أن يقول: إنه من السنة صوم السابع والثامن والتاسع، فهذا لا أصل له، فبالنسبة للعشر إما يوم عرفة فقط وإما العشر كلها، أما من كان من عادته أن يصوم ثلاثة أيام من الشهر وجعل السابع والثامن والتاسع هي الأيام فلا حرج عليه.

الأضحية:
ومما يتعلق بهذا الأضحية، الأضحية التي شرعها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقوله وفعله، فقد أمر بها وقام بها -عليه الصلاة والسلام-، وكان من عنايته بها أنه يخرج بأضحيته إلى مصلى العيد ليشهرها ويعلنها، فيذبحها هناك ويأخذ منها ما يريد أن يأكل ويتصدق بالباقي، فالأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، وليس المراد منها أن يتصدق الإنسان بلحمها على الفقراء، لكن هذا من بعض ما يقصد بها. والمقصود الأعظم بها -أي بالأضحية- التقرب إلى الله تعالى بالذبح، وبهذا نعرف أن ما يصدر من بعض الناس من الدعوة إلى جلب الدراهم ليضحى بها في بلاد بعيدة أن ذلك صادر عن جهل؛ لأنه ظن أن المقصود بالأضحية ما يؤكل من لحمها، ولكن الله في القرآن يقول: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج:37].

ولهذا أقول لإخواني: إذا كنتم تريدون تطبيق السنة بالأضحية فعليكم أن تضحوا في بلادكم، لا تخرجوا بها إلى بلاد أخرى؛ إظهاراً للشعيرة، وتبياناً لها بين الأهل والأولاد، ولتباشروا أنتم ذبحها في بيوتكم إذا أمكن، فتذكروا اسم الله عليها، وتأكلوا منها؛ حتى توافقوا هدي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، قال الله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا﴾ [الحج:36] فبدأ بالأكل وهذا يدل على أنه ليس المقصود الصدقة بها ولكن المقصود التعبد لله تعالى بنحرها تعظيماً له -جل وعلا-، وهذا يفوت بلا شك إذا أعطيت دراهم يضحى بها في بلاد بعيدة.

ثم إنك إذا أعطيت هذه الدراهم لا تدري أيضحى بشيء مجزئ أو غير مجزئ، ولا تدري -أيضاً- هل يذبحها من يوثق بمعرفته في الذبح وبدينه، ولا ندري أيمكن أن تذبح في أيام الأضحية أم لا؛ لأن الأضاحي التي تبذل قد تكون كثيرة جداً، لا يستوعبها الناس في ثلاثة أيام أو أربعة، وربما لا يصل الخبر إلا بعد، والمقصود: أن إعطاء الدراهم ليضحى بها في بلاد، ولو كانت أفقر البلاد لا يحصل به المقصود الشرعي من الأضحية.

أما إخواننا في البلاد الأخرى من الفقراء فالباب واسع -ولله الحمد- يرسل إليهم دراهم، يرسل إليهم أطعمة، يرسل إليهم ألبسة، يرسل إليهم فرش، وغير ذلك من أنواع المنافع، أما أضحية.. شعيرة.. نسيكة قرنها الله تعالى بالصلاة فقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] وقال: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162] وأمرنا أن نأكل منها وأن نذكر اسم الله عليها، فلا ينبغي أبداً أن تذبح خارج البلد، والذي أحث عليه أن تذبح في نفس البيت إذا أمكن ولم يتيسر أن تذبح في مصلى العيد، الله الله -أيها الإخوة- لا تعصف بكم العاطفة حتى تغفلوا عن مقاصد الشريعة.

الحج وأهم شروطه:
ومما نريد أن نبحث فيه في هذا اللقاء: مسألة الحج، الكثير من المسلمين يعلمون أن الحج أحد أركان الإسلام التي لا يتم إلا بها ولكن بشروط أهمها: القدرة والاستطاعة، لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران:97] فمن كان فقيراً فلا حج عليه، ومن كان مديناً فلا حج عليه، ومن كان عاجزاً ببدنه فلا حج عليه لكن يقيم من يحج عنه، وبهذا نعرف قلة فقه الذين يكون عليهم الدين فيذهبون ويحجون، أو ربما يستدينون ليحجوا، فهذا خطأ، احمد الله على العافية، إذا كان الله قد أوسع عليك ولم يوجب عليك الحج إلا بعد أن تقضي دينك فاحمد الله على ذلك، أنت مطالب بالدين ولست مطالب بالحج ما دام عليك دين، أرأيتم الفقير هل نلزمه بالزكاة؟ لا، من ليس عنده مال أو عليه دين لا نلزمه بالحج، وإذا لقي الله -عز وجل- يلقى الله تعالى وهو غير ناقص الإسلام، لماذا؟ لأن الله لم يوجبه عليه، إنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، يقول بعض الناس: أنا أستأذن من الدائن وأحج، نقول: ماذا ينفعك الاستئذان؟ هل إذا استأذنت يسقط عنك شيء من الدين؟

الجواب: لا يسقط، إذاً ما هي الفائدة؟ أنت إذا كان عليك عشرة آلاف دين وحججت بألفين اجعل الألفين في قضاء دينك، كم يبقى عليك؟ ثمانية، احمد الله على العافية، لو أذن لك الدائن وقال: لا بأس حج، فحججت هل تكون العشرة ثمانية؟ لا، إذاً لا فائدة، لكن الذي عليه دين ويعرف أنه كلما حل منه شيء فإذا هو واجد لوفائه فهذا إذا توفر عنده مال للحج فليحج، وأضرب لذلك مثلاً للذين في ذمتهم دين لصندوق التنمية العقاري، يقول: أنه إذا حل علي القسط فأنا واجد، لكن الآن عندي مال أستطيع أن أحج به، وإذا حل القسط أديت ما علي، نقول: نعم، حج، لأن هذا الدين لا يمنع من وجوب الحج، لكن إنساناً ليس عنده شيء ولا يثق بنفسه أن يوفي إذا حل الدين فلا يحج حتى لو أذن له صاحب البيت.

أهمية معرفة أحكام الحج:
والذي يجب على الإنسان إذا أراد الحج أن يفقه أحكام الحج قبل أن يحج؛ لأن من شرط العبادة: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولا يمكن المتابعة إلا بمعرفة كيف كان الرسول يحج، إذاً تعلم أحكام الحج قبل أن تحج، وبهذه المناسبة أحث إخواننا أئمة المساجد أن يقرءوا على الناس أحكام الحج ويفهموهم بقدر الاستطاعة، والكتب -والحمد لله- موجودة، وهناك كتب في الحج خاصة، من ذلك على سبيل المثال: كتاب الشيخ عبد العزيز بن باز "التحقيق والإيضاح" وكتابنا "المنهج لمريد العمرة والحج" أو "مناسك الحج والعمرة" ومناسك أخرى للعلماء الموثوقين، تقرأ على الناس، ويفسر لهم المشكل. ولهذا أقول: ينبغي لمن كان معهم حملة حملوا فيها كثيراً من الناس أن يكون معهم طالب علم يبين للناس، إذا جلسوا للفطور أو جلسوا للغداء أو جلسوا للعشاء يقرأ عليهم ويعلمهم، ما أكثر الذين يأتون بعد سنة أو سنتين يقصون علينا ما فعلوا في حجهم وإذا بهم قد تركوا ركناً من أركان الحج، وهذا شيء عظيم، يأتيك إنسان ويقول: والله أنا في اليوم الفلاني طفت طواف الإفاضة -وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج- يقول: طفت طواف الإفاضة واحتجت إلى أن أنقض الوضوء وذهبت ونقضت الوضوء ثم رجعت وأكملت الطواف، ما بدأت من جديد. هذا لا يصح طوافه، نقول: يلزمك الآن أن تذهب إلى مكة وتحرم بعمرة من الميقات وتطوف وتقصر للعمرة ثم تطوف طواف الإفاضة، وربما يكون هذا المسكين قد تزوج ونكاحه غير صحيح عند كثير من العلماء؛ لأنه لم يحل التحلل الثاني، فالمسألة خطيرة، ولهذا أكرر وأقول: ألا يحج أحد حتى يعرف أحكام الحج.

من أحكام الحج:
وأحكام الحج تخفى على كثير من الناس حتى على بعض طلبة العلم؛ لأن الحج ليس كالصلاة يتكرر كل يوم ويعرف، أو الصيام الذي يتكرر كل سنة ويعرف، لكنه في العمر مرة واحدة؛ لذلك يتأكد على الإنسان أن يتعلم أحكام الحج قبل أن يحج، فلنبدأ الآن بشرح أحكام الحج وكأننا سافرنا من بلادنا إلى مكة: ينبغي للإنسان عند السفر أن يتأهب للسفر، وذلك بأن يوفر معه النفقة -الدراهم- والطعام والشراب والفرش في أيام الشتاء، لأنه ربما يحتاجه هو في أمر لم يكن طرأ على باله، وربما يحتاجه أحد من رفقته فيحسن إليه بالصدقة، أو الهدية، أو القرض، فينبغي لمن أوسع الله عليه أن يتأهب بأكثر مما يتصور أنه يحتاجه حتى ينفع غيره، ثم ليحافظ على الصلوات بواجباتها وشروطها، يتطهر بالماء إذا أمكن فإن لم يمكن فبالتيمم، ويؤديها في وقتها، ويصليها قصراً من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة، اقتداءً بالرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: لم يزل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي ركعتين منذ خرج من المدينة حتى رجع إليها، وقال لما سئل: كم أقام في مكة؟ قال: عشرة، يعني: عشرة أيام، أما الجمع فالجمع إن كان سائراً -يعني: يمشي- فالأفضل أن يجمع إما جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر له، وإن كان نازلاً فالأفضل ألا يجمع وإن جمع فلا بأس؛ لأنه مسافر، لكن إذا كان في مكة أو غيرها من البلاد مقيماً فإنه يلزمه أن يصلي مع الجماعة، فإن فاتته صلى ركعتين، فإذا وصل إلى الميقات اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد على رأسه ولحيته، ثم لبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً، والأفضل أن يكونا أبيضين نظيفين، ثم يلبي، والمرأة ليس لها لباس مخصوص في الإحرام، تلبس ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثياباً يعتبر زينة؛ لأن الناس سوف يشاهدونها، بل تلبس ثياباً بذلة، تلبس العباءة، وتلبس الثياب التي لا تلفت النظر، ثم يقول -ونحن الآن نريد أن نجعل نسكنا تمتعاً- يقول: لبيك عمرة، ولا يحتاج أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج؛ لأنه قد نوى بقلبه أنه سيحج: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شرك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويرفع الرجل بها صوته، وليعلم أنه لا يسمعه شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة بهذه التلبية، ومضمون التلبية: إجابة الله -عز وجل-؛ لأن لبيك بمعنى: أجبتك، قال الله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ [الحج:27] يعني: أعلمهم به ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ [الحج:27] أي: على أرجلهم ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج:27] أي: ويأتونك ركباناً ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ [الحج:27] أي: على كل ناقة ضامر ﴿يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج:27] الله أكبر! الآن لا يوجد ناقة (ضامر) وإنما طيارة أو سيارة، لكن كلها سواء، وليستمر في تلبيته إلى أن يشرع في طواف العمرة فيدخل المسجد الحرام ويقدم رجله اليمنى عند الدخول ويقول كما يقول إذا دخل غيره من المساجد، وليقصد الحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر فإن لم يتيسر أشار إليه، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ويجعل البيت عن يساره، ويقول في طوافه ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، وفيما بين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

في هذا الطواف يضطبع الرجل بردائه في كل الأشواط السبعة، ويرمل في الأشواط الثلاثة فقط، ويمشي في الباقي، والرمل: هو إسراع المشي، وهذا إذا تيسر أما إذا لم يتيسر الرمل لكون الزحام شديداً فالأمر واسع -ولله الحمد- فإذا أتم سبعة أشواط صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر، وإن لم يتيسر ففي أي مكان من المسجد، يقرأ في الأولى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون:1] وفي الثانية: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويخفف هاتين الركعتين، وينصرف بعد السلام مباشرة بدون دعاء، فيتجه إلى الصفا ، فإذا قرب من الصفا قرأ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به.

فيرقى على الصفا ويتجه إلى القبلة، ويرفع يديه داعياً وذاكراً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد هذا الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة؛ يمشي مشياً معتاداً حتى إذا وصل إلى العمود الأخضر سعى -يعني: ركض ركضاً شديداً- فإن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يسعى حتى إن إزاره ليدور به من شدة السعي، وإذا كان المسعى زحاماً فالأمر واسع -والحمد لله- يمشي حسب القدرة، وإذا كان معه نساء يخاف عليهن لو سعى فيمشي؛ لأن المرأة لا تسعى، ثم إذا تجاوز العلم الأخضر الثاني مشى على عادته حتى يصل إلى المروة، إذا دنا من المروة فلا يقول شيئاً، العامة إذا دنوا من المروة قالوا: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة:158] وهذا غلط، لا يقول شيئاً، بل يبقى في ذكره الذي كان يذكر الله به حتى يصعد على المروة ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه داعياً وذاكراً بما فعل على الصفا، ويسعى سبعة أشواط. كيف يسعى سبعة أشواط؟ الأشواط هنا -في السعي- ليست كأشواط الطواف، أشواط الطواف من الحجر إلى الحجر، وأشواط السعي من الصفا إلى المروة هذا واحد، ومن المروة إلى الصفا هذا ثاني، يكمل سبعة أشواط وحينئذٍ نعرف أنه يبتدئ بالصفا وينتهي بالمروة، فإذا رأيت أنك ختمت السعي بالصفا فاعلم أنك مخطئ، إما أنك زدت أو نقصت.

إذا أتم السعي بقي عليه الآن الحلق أو التقصير، فأيهما أفضل؟ الأفضل هنا التقصير لوجهين:

الوجه الأول: أنه الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أصحابه حين قدم في اليوم الرابع وأمرهم أن يقصروا، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل ويقصر.

الوجه الثاني: أنه لو حلق وقد بقي مدة يسيرة للحج لم يبق للحج شعر، فنقول: وفر الشعر للحج واقتصر على التقصير، فإن قال قائل: هل التقصير يعم جميع الرأس أو جوانب الرأس؟

الجواب: إنه يعم جميع الرأس، المهم أنه يبقى الرأس وقد تبين وظهر أنه مقصر لا أنه غير مقصر، وبذلك يحل التحلل كله، بذلك -أي: بالطواف والسعي والتقصير- يحل الحل كله، حتى لو كان أهله معه جاز له أن يباشر أهله، انتهت العمرة، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من مكانه الذي هو نازل فيه، إن كان نازلاً في مكة فمن مكة، أو في منى فمن منى، أو في أي مكان من مكانه، يحرم بالحج فيغتسل كما سبق في العمرة ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام ويقول: لبيك حجاً ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هذا يكون ضحى اليوم الثامن، ويذهب إلى منى فينزل بها، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها مقصورة، أي: الظهر والعصر والعشاء تكون على ركعتين، فإذا طلعت الشمس في اليوم التاسع سار إلى عرفة، فينزل بنمرة إن تيسر وإن لم يتيسر ذهب رأساً إلى عرفة ونزل في مكانه، فإذا زالت الشمس صلى الظهر.

وينبغي لإمام الحجيج أن يخطب فيهم خطبة قبل أذان الظهر، يقرر فيها أصول الإسلام وحقوق الإسلام، ويبين أحكام النسك، ثم يؤذن لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم قصراً، لكن لو صادفت الحجة يوم الجمعة يصلي الجمعة أو لا؟ لا يصلي الجمعة، السفر ما فيه جمعة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صادف يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة ولم يصل الجمعة، صلى الظهر والعصر، ثم إذا فرغ من صلاة الظهر والعصر يتفرغ للدعاء والذكر، ويكثر الابتهال إلى الله -عز وجل- في آخر النهار، فإن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل الموقف، فإذا غربت الشمس سار من عرفة إلى مزدلفة ملبياً؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ويؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة فينزل بها، ويصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ويبيت في مزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر أذن وصلى الركعتين الراتبة ثم صلى الفجر، ثم جلس يدعو الله -سبحانه وتعالى- بما أحب إلى أن يسفر جداً.

وليعلم أن عرفة كلها موقف وأن مزدلفة كلها موقف، ولكن ليتحرى أشد التحري في حدود عرفة؛ لأن بعض الناس يقصُر عن عرفة وينزل قبل أن يصل إلى حدودها، ويبقى في مكانه حتى تغيب الشمس ثم ينصرف إلى مزدلفة، وهذا لا حج له، بل رجع بدون حج؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الحج عرفة» كذلك مزدلفة كلها موقف، لا يلزم أن تذهب إلى المشعر الحرام، بل أي مكان وقفت فيه أجزأك، ثم تنصرف من مزدلفة إذا أسفر جداً إلى منى، وبعد الانصراف من مزدلفة إلى منى ستفعل ما يأتي:

مسائل تتعلق بالحج:
وهنا مسائل: 
حكم من ترك المبيت في منى:
المسألة الأولى: لو أن الإنسان خرج من مكة في اليوم الثاني إلى عرفة رأساً ولم يبت في منى؟ ما الحكم؟ الحكم أنه ترك سنة، إن نزل في منى قبل عرفة فهو أفضل وإلا فلا شيء عليه، لا فدية ولا إثم ولا صيام ولا شيء، الدليل: أن رجلاً من طيء -طيء: جبل حول حائل- أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يصلي الفجر يوم العيد في مزدلفة، وأخبره بأنه أتعب نفسه وأكل راحلته -أتعبها- وأنه ما ترك جبلاً إلا وقف عنده، فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه» ولم يذكر المبيت في منى، فدل ذلك على أن المبيت في منى قبل يوم عرفة سنة، إن تيسر لك فهذا المطلوب وإن لم يتيسر فلا بأس.

حكم من خرج من مزدلفة قبل الفجر خوفاً من الزحام ورمى حين وصل:
مسألة أخرى: رجل خرج من مزدلفة قبل الفجر خوفاً من الزحام، ورمى حين وصل إليها -قبل الفجر- جائز أو غير جائز؟ جائز، وقد قيده بعض أهل العلم بما إذا كان ضعيفاً أو صغيراً لا يستطيع المزاحمة، لكن في وقتنا هذا كل يخشى المزاحمة، أليس كذلك؟ الصغير والكبير، فيما سبق لم يكن هناك زحام إلا قليل، ولا يشق الزحام إلا على شخص ضعيف جداً أو مريض، وأنا أدركت ذلك، أدركت أن الناس يرمون جمرة العقبة يوم العيد ونحن مخيمون عند مسجد الخيف نشاهد الذين يرمون، وتجدهم قليلاً، فكان الناس يقولون: من كان ضعيفاً أو مريضاً أو صغيراً فليدفع خوفاً من الزحام، أما الآن فالزحام موجود على الكبير والصغير والقوي والضعيف، وعليه فنقول: لا بأس أن يدفع الإنسان قبل الفجر، ومتى وصل إلى منى رمى، وأما حديث: «لا ترموا حتى تطلع الشمس» فهو حديث فيه نظر، وقد ثبت في صحيح البخاري: أن ابن عمر يرسل أهله إليه من مزدلفة ويوافون منى عند الفجر أو نحو ذلك ويرمون، وكذلك كانت أسماء بنت أبي بكر تفعل ذلك، ومن المعلوم: أن الناس إذا وصلوا إلى منى قبل الفجر ممن رخص لهم هل سيبقون هكذا في الخيام حتى تطلع الشمس وترتفع؟ لا، أبداً، سيبدءون بالرمي، والرمي هو تحية منى كما قال العلماء، بمعنى: أنك من حين أن تدخل منى ارم الجمرة، كما أنك إذا دخلت المسجد تبادر بصلاة ركعتين، فالقول: بأن من جاز له الدفع من مزدلفة في آخر الليل لا يرمي إلا إذا طلعت الشمس قول ضعيف، والصواب: أنك متى وصلت ارم، حسن، لو وصلت قبل الفجر ورميت، ونزلت إلى مكة وطفت قبل الفجر طواف الإفاضة؟ يجوز أو لا يجوز؟ يجوز.

من لم يجد مكاناً في منى ينزل حيث شاء:
مسألة أخرى: إذا لم يجد الإنسان مكاناً في منى فأين ينزل؟ يقول بعض العلماء: ينزل حيث شاء، في مكة، قريباً من الحجاج، في أي مكان؛ وعللوا ذلك: لأن مكان الفرض تعذر المبيت فيه فهو كما لو قطعت يد الإنسان من فوق المرفق فإنه يسقط عنه غسلها، فهو الآن تعذر عليه المبيت لتعذر المكان فله أن يبيت في أي مكان، وعندي أن الأحوط والأبرأ للذمة: أن يخيم عند آخر خيمة من الحجاج، ليكون مظهر الناس واحداً، ويتحد المكان ويشعر الناس أن بعضهم مع بعض، وقياساً على المسجد إذا امتلأ، إذا امتلأ المسجد هل نقول للإنسان: صل في أي مكان، أو صل حيث تتصل الصفوف؟ الثاني، إذاً نقول: الأحوط والأبرأ للذمة أن تضع خيمة عند آخر خيمة من خيام الحجاج، سواء من جهة مكة أو من جهة مزدلفة، أو من شمال أو من جنوب.

حكم التوكيل في الرمي:
مسألة أخرى: إذا كان الإنسان لا يستطيع زحام الناس ككبير ومريض وامرأة وما أشبه ذلك، فهل له أن يوكل؟ في هذا خلاف بين العلماء: من العلماء من قال: إذا كان لا يستطيع سقط عنه الرمي، أخذاً بقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] وهذا لا يستطيع، وأخذاً بقول الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الصلاة وهي أعظم من الحج قال: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» فأسقط عنه القيام مع أنه ركن؛ لأنه عاجز، فمن العلماء من قال: إذا عجز عن الرمي سقط عنه، ولا شك أننا في هذا الوقت في الزحام الشديد الإنسان الكبير الذكر الرجل القوي لا يكاد يتمكن من الرمي، وربما لا يرمي إلا من بعيد، يمكن تقع الحصاة في المكان أو لا تقع. والنساء في الواقع أمرهن مشكل، ضعيفات، متحجبات، محتشمات، أحياناً تخرج المرأة بلا عباءة، تسقط عباءتها مع الزحام، وأحياناً قد تكون نشأ فيها حمل فتسقط، وأحياناً تدوخ، وهذا والله لا يأتي به الإسلام؛ لأن الله قال في كتابه العظيم: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286] ويقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78] كيف نحرج أنفسنا والله قد وسع علينا والحمد لله؟! إذا كان الإنسان عاجزاً عن الرمي فمن العلماء من قال: يسقط؛ لأن جميع الواجبات تسقط بالعجز، ومنهم من قال: فليوكل، واستند إلى حديث هو في السنن: أن الصحابة كانوا يرمون عن الصغار، قالوا: فإذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- وهم خير هذه الأمة، بل خير الناس كلهم إذا كانوا يتوكلون عن صبيانهم في الرمي دل هذا على جواز الرمي، وهم يفعلون ذلك مع وجود الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

وهذا القول أحوط وأبرأ للذمة: أن من يشق عليه الرمي فليوكل، الوكيل، هل نقول: ارم الثلاث عن نفسك ثم ارجع أو ارمها كلها في موقف واحد؟ الثاني، في موقف واحد؛ لأن هذا ظاهر فعل الصحابة -رضي الله عنهم-، لم يقولوا: فكنا نرمي عن أنفسنا ثم نرجع ونرمي عن صبياننا، فترمي سبعاً عن نفسك أولاً ثم عن موكلك في الأولى، ثم في الثانية كذلك ثم في الثالثة.

مسألة أيضاً: إذا وكل الإنسان من يرمي عنه، فهل يجوز أن يخرج من منى قبل أن يرمي الوكيل؟ الظاهر نعم يجوز؛ لأن بقاءه في منى إلى ما بعد الزوال إنما هو من أجل الرمي، والرمي الآن سقط عنه وتعلق بالوكيل فله أن يخرج، لكن ليس له أن يطوف طواف الوداع حتى يرمي الوكيل، وعلى هذا فليحدد وقتاً معيناً، يقول لوكيله: متى تظن أنك تنتهي من الرمي؟ قال: أظن أنني أنتهي من الرمي الساعة الثانية، فإذا تمت الساعة الثانية حينئذٍ يطوف للوداع ولا حرج، هذا إن لم يكونوا قد تواعدوا أن يكون طواف وداعهم وهم جميع، فهنا ينتظر حتى يأتي رفقته ويطوفون جميعاً.

ولعلنا نقتصر على هذا القدر.

لا يلزم على الحاج زيارة المدينة:
هنا مسألة خارجة عن النسك: هل يلزم الإنسان إذا حج أن يذهب إلى المدينة أو لا يلزم؟ لا يلزم، ولا علاقة لزيارة المدينة بالحج إطلاقاً، هذا شيء وهذا شيء، زيارة المدينة في أي وقت، ولتعلم أنك إذا زرت المدينة فإنما تقصد المسجد النبوي لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» لكن من المعلوم أن الإنسان إذا ذهب وصلى في المسجد النبوي أنه سوف يزور النبي -عليه الصلاة والسلام-، فيسلم عليه، ويجعل وجهه إلى القبر الشريف وظهره إلى القبلة، ويسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فإن قال قائل: ما هو أفضل سلام على الرسول؟ قلنا: أفضل سلام على الرسول ما علمناه الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حيث علمنا أن نقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، هذا أفضل سلام، ولا حاجة أن نطول ونسجع: السلام عليك يا من بالمؤمنين رءوف رحيم، السلام عليك يا خيرة خلق الله، وما أشبه ذلك، كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا سلم يقول: السلام عليك يا رسول الله، وابن عمر من هو؟ صحابي من أجل الصحابة، لكن لا بأس أن تسلم بما علم الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمته: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد -إذا زدت هذا فلا بأس- اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

ثم بعد ذلك تخطو عن اليمين خطوةً واحدة لتسلم على أبي بكر -رضي الله عنه-، تقول: السلام عليك يا خليفة رسول الله! رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً، وتقول كذلك بالنسبة لعمر -رضي الله عنه-، وتنتهي. وإذا شئت أن تخرج إلى مسجد قباء بعد أن تتطهر في بيتك وتصلي فيه ركعتين في غير وقت النهي فهذا حسن؛ لأن من تطهر في بيته وخرج وصلى في قباء ركعتين كان كعمرة، وتسلم -أيضاً- على أهل البقيع وفيهم عثمان -رضي الله عنه- الخليفة الثالث للمسلمين، تسلم عليهم بما كان الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.

كم زرنا من القبور الآن؟ قبر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقبر صاحبيه، والبقيع، كذلك تخرج إلى أحد لتسلم على الشهداء هناك، وأجلهم حمزة بن عبد المطلب، تسلم عليهم بما يسلم به الرسول -عليه الصلاة والسلام- على أهل القبور، ولا يجوز أبداً أن يعتقد الإنسان أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ينفعه أو يضره، أو ينجيه من الشدة أبداً؛ لأن ذلك لله -عز وجل- وحده، قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يوصي ابن عباس: «اعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» وأمر الله نبيه أن يقول علناً: ﴿قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً﴾ [الجن:21] ما أملكه، لا أقدر أضركم ولا أقدر أرشدكم، وأمره أن يقول: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ [الأعراف:188] وقال الله له: ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ [الأنعام:50] فأعطيكم منها ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام:50] حتى إن أصحابه -رضي الله عنهم- يغيبون عنه قريباً ولا يعلم، قال أبو هريرة: كنت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض طرق المدينة، وكان -رضي الله عنه- على جنابة، فانخنس -يعني: ذهب بخفية- واغتسل ثم جاء، فقال: «أين كنت؟» -الذي يقول: أين كنت يعلم أو لا يعلم؟ لا يعلم- أين كنت؟ قال: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس» يدخل بيته أحياناً ولا يعلم ما الذي فيه، دخل يوماً البيت وطلب طعاماً، وتعذروا منه فقال لهم: «ألم أر البرمة على النار؟» -وهو لا يعلم ما الذي فيها- قالوا: بلى، لكن هذا لحم تصدق به على بريرة - بريرة أمة اشترتها عائشة وأعتقتها، وبقيت عند عائشة تخدم- قالوا: هذا لحم تصدق بها على بريرة، هل كان يعلم؟ ما كان يعلم، يرى البرمة على النار لكن لا يعلم ما الذي فيها. فقال -عليه الصلاة والسلام-: «هو عليها صدقة ولنا هدية» وإنما قالوا: إنه لحم تصدق بها عليها؛ لأنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من خصائصه: أنه لا يأكل الصدقة، ومن باب أولى ألا يأكل الزكاة، أما أهل البيت فلا يأكلون الزكاة ويأكلون الصدقة، الصدقة تعتبر حلال لأهل البيت لكن الزكاة حرام عليهم.

أسأل الله لي ولكم الإخلاص في العمل، والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وأسأله تعالى أن يحشرنا في زمرته، وأن يسقينا من حوضه، وأن يدخلنا في شفاعته، وأن يجمعنا به في جنات النعيم.